صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

شفق الثورة الإيرانية (3)

نشرت مجلة “نيويوركر” الامريكية مقالا مطولا للصحفي الأمريكي المختص بشؤون الشرق الأوسط “ديكستر فيلكينز” حول طبيعة النظام الإيراني وصعود المرشد الايراني الأعلى علي خامنئي ومستقبل النظام في ظل المعارضة الداخلية ووباء كورونا، تنشر “العالم الجديد” ترجمته التي أعدها د. محمد المالكي على أجزاء: 

الفصل الخامس: ثورة داخل الثورة الاسلامية

في اليوم الثاني من الاحتجاجات كان بويا بختياري وهو مهندس كهربائي يبلغ من العمر 27 عاما يقود سيارته عائدا من عمله في منطقة من مناطق طهران تسمى كرج، عندما شاهد مجموعة من الناس تتأهب للخروج الى الشوارع في وقت كانت وسائل التواصل الاجتماعي تنبض طوال اليوم بالحديث عن الاحتجاجات.

عندما وصل “بويا” الى البيت تناول وجبة الغداء من يخنة الباميا باللحم مع امه ناهید. وبعد انتهائه من الغداء أبلغ بويا والدته بأنه متوجه الى الشارع للمشاركة في الاحتجاج ودعاها لتأتي معه. وافقت ناهید على الفور بشرط ان يمسك بيدها اثناء سيرها معه. كان لبويا اخت اسمها مونا قررت هي الاخرى اللحاق بهما.

كانت عائلة بختياري مستاءة من الثورة الاسلامية رغم ان أب العائلة كان مقاتلا في صفوف الحرس الثوري لخمس سنوات اثناء الحرب العراقية الايرانية لكن بويا الذي كان يخطط للزواج قريبا كان يمقت الحكومة اكثر من اي فرد آخر في عائلته. 

تصف ناهيد ابنها المهندس كشاب شغوف بالشعر والطبيعة وكان يرى الجمال في كل شيء. و كان ايضا يحب قراءة التاريخ وكان يردد: “ان رجال الدين دمروا إيران بالكامل وان إيران لم تشهد في تاريخها وقتا مزريا مثل الذي تعيشه الان في كل تاريخها”. علقت ناهید على الاحتجاجات قائلة: “اصبحت التظاهرات بالنسبة لنا بمثابة منفذ للتعبير عن احباطات أخرى. فمثلا نرى الحكومة تنفق اموال الشعب على بلدان لاعلاقة للايرانيين بها مثل حماس وسوريا وحزب الله اللبناني”. وقالت ايضا: “الحقيقة ان التظاهرات لم تكن بسبب البنزين بل تعبيرا لرفضنا لهؤلاء الذين حكمونا لـ40 عاما والذين طالما سعوا عمدا لاشعال حرب مع الولايات المتحدة. انهم هم الذين جعلوا من ايران دولة منبوذة عالميا”. وقالت: “لا غبطة في ايران. هذا البلد هو دكتاتورية دينية تعيسة ليس الا. نحن مجبورون للبس هوية لا تعنينا”. احست ناهید بسعادة غامرة وهي تنزل الى الشارع برفقة اولادها لتلتحق بجموع المحتجين الغاضبة وهم يهتفون: امريكا ليست العدو، العدو هنا.

سرعان ما قامت الشرطة باطلاق القنابل المسيلة للدموع، لكن ذلك لم يثن المتظاهرين عن التقدم بالمسير. في تلك اللحظة انتاب ناهید احساس بالحرية لم تعهده من قبل حتى انها التفتت الى ابنتها “منى” لتصف شعورها: “هذه اسعد ليلة في حياتي”.

وفي الاثناء، أخبر بويا أمه أن حذاءه قد خرق وأنه يريد العودة الى السيارة، وفي الوقت الذي اختفى فيه بين المحتجين سمعت ناهید اصوات اطلاق نار متفرقة سرعان ما اصبحت اكثر كثافة. دفعت ناهید بجسدها لتخترق حشود المحتجين وكانت الناس تتساقط من حولها إثر اصابات الطلق الناري وهي تردد مع نفسها: “كم اشعر بالمأساة لأمهات هؤلاء الشباب” قبل ان تشاهد ابنها ساقطا بايدي مجموعة من المتظاهرين وقد اصيب بطلق ناري في رأسه: “هذا ابني” صاحت ناهید بالجمع قبل ان تتقدم لسحبه بسرعة الى داخل السيارة متوجهة الى مستشفى قريب. توفي بويا في الطريق الى المستشفى.

تروي ناهید ان الايام التي تلت كانت في غاية الصعوبة، فبالاضافة الى الفاجعة ذاتها رفضت السلطات تسليم الجثة ومن ثم استدرجت قوات الامن والد ووالدة بويا الى مركز الشرطة لغرض التحقيق في الوقت الذي كانت عناصر امن بالملابس المدنية تحوم حول البيت لعدة ايام. وكانت ايضا تأتي العائلة اتصالات تلفونية بغرض التهديد، وعندما سألت ناهید عن قاتل ابنها قالوا لها: مجاهدي خلق.

خرج نحو 2000 مشيع في جنازة بويا بعد ان تمكن ابواه بصعوبة من استخلاص الجثة، وكان عدد من رجال الامن يحومون حول الجنازة عن بعد. في الأشهر التي تلت مقتل بويا بدأت ناهید بزيارة امهات القتلى الاخرين. اختتمت ناهید قولها: “العنف الذي شاهدناه ضد المحتجين اثبت لنا ان هذا النظام مستعد لفعل أي شيء من أجل البقاء في السلطة”.

كانت مظاهرات تشرين الثاني نوفمبر مختلفة بشكل ملحوظ عن تلك التي حدثت عام 2009 لكون الاولى حدثت في طهران وعدد من المدن الكبرى وقادتها الطبقة الوسطى وطلاب الجامعة والنخبة المثقفة اما الاخيرة فقد عمت معظم ارجاء البلاد وخرج فيها الفقراء من الطبقة العاملة التي تعتبر قاعدة النظام الاساسية للحكم. أيضا هذه المرّة ساد العنف والعنف المضاد فقد قام عدد من المحتجين بحرق محال تجارية واجتياح عدد من مراكز الشرطة.

علق صاحب محل تجاري بطهران كان قد شهد الموجتين بقوله ان “احتجاجات عام 2009 اثبتت ان النظام فقد الطبقة الوسطى من المجتمع الايراني وفي نوفمبر فقد شعبيته من بين الطبقة العاملة ايضا”.

وقال دبلوماسي غربي في طهران ان “النظام اجهز على حركة الاحتجاج بوحشية وقضى عليها سريعا”. “فقد اغلقت الحكومة الانترنت وشبكات الهاتف، وردت على التظاهرات بشكل عنيف جدا بحيث انتهى كل شيء في ثلاثة ايام فقط. اعتقد ان النظام هذه المرة كان فعلا خائفا”.

اكد المسؤلون الايرانيون انه على اثر موجة الاحتجاج تم اعتقال 7000 شخص ولكنهم لم يصرّحوا بالعدد الفعلي للقتلى. لكن منظمة العفو قدرت العدد بثلاثمائة ونقلت وكالة رويترز عن مسؤولين مقربين من خامنئي بأن عدد القتلى وصل الى الف وخمسمائة وأيدت احدى المنشقات السياسيات تقدير رويترز، اذ قيل لها ان ما يقرب من 200 شخص دفنوا في منطقة واحدة في ليلة واحدة و اضافت “ثم ان هناك المرحلة الثانيه التي اعقبت التظاهرات والتي لا يتكلم عنها احد حيث قامت الشرطة بفحص ارقام لوحات السيارات من اجل التعرف على قادة الاحتجاج واستخدمت الجواسيس للتعرف على المزيد منهم وقامت السلطات باعتقال هولاء ايضا”.

هذه التظاهرات تميزت بشيء لم يحدث سابقا وهو ان المتظاهرين ردوا بالمثل، فحسب مصادر اخبارية رسمية قتل على الاقل ستة اشخاص في صفوف الشرطة على ايدي المتظاهرين، اربعة منهم بالرصاص الحي في الرأس (علما ان المعروف انه لا يسمح  للمدنيين غالبا بحمل السلاح) والاخران بالطعن. وكذلك واجهت قوات الامن في مناطق مثل كردستان وخوزستان (وهما محافظتان متاخمتان للعراق) مقاومة غير مسبوقة اذ يظهر مقطع فيديو شاع على اليوتيوب عدد من رجال الامن يطلقون الرصاص الحي على المدنيين أثناء فرارهم الى الاهوار المجاورة وهذا يشير الى احتمالية وجود مقاومة منظمة من داخل الاهوار حسب زعم علي آلفونه الزميل الاقدم في معهد دراسات دول الخليج في واشنطن والذي اضاف ايضا: “المواطنون العاديون لا يختبئون في الاهوار”.

وعلى صعيد آخر، حاول عدد من السياسيين الاعتراض على الطريقة التي تعاملت بها الحكومة مع المحتجين، حيث ألقت عضو البرلمان بروانه سلحشوري خطابا في مجلس النواب ادانت فيه تدخل الجيش في قرارات الدولة: “كيف يمكنني كممثلة الشعب ان اقف متفرجة على مقتل شباب بلدي بهذا الشكل”، تعرّضت على اثره للتوبيخ والمضايقة لعدة ايام.

أما خامنئي فحاول ابعاد الشبهة عن نفسه بأدعائه ان لا دخل له بقرار اطلاق النار على المحتجين ولكنه مع ذلك لم يبدي اي شفقة على القتلى واصفا اياهم بالغوغاء وجواسيس الخارج: “هذه الافعال لايمكن ان تصدر من عامة الشعب. هؤلاء مجرد بلطجية” وأضاف: “انه لن يقف في طريق القوات الامنية في المستقبل” (لمنعهم من اطلاق النار على المتظاهرين).

الرئيس روحاني من طرفه لم يُر في العلن إبان التظاهرات، ولكنه ظهر بعد عدة ايام في مؤتمر صحفي، وقد سألته بنفسي كم قتلت الحكومة من المدنيين؟ رد علي بجواب مرتبك قبل ان يخلص الى اقتراحه لي بالاستفسار من مكتب الطب الشرعي. (وفعلا اتصل عدد من الصحفيين بمكتب الطب الشرعي في طهران وجاء الرد نفيا: “وزارة الداخلية هي المسؤولة عن اعلان مثل هذه الاحصاءات”. عند رجوعي لمقعدي دنت مني صحفية ايرانية بصوت كاد جميع من بالغرفة يسمعه وبلغة انكليزية واضحة: “هل لاحظت ان الرئيس لم يجب على سؤالك.. كم نكره هذا الرجل!”

الفصل السادس: خمر وخمار ـ الحياة الاخرى  

بعيدا عن المواجهة مع الحكومة الاسلامية يسعى الايرانيون لعيش حياة اخرى موازية ـ في بلد يعد خروج المرأة من منزلها دون حجاب جريمة يعاقب عليها القانون ـ فليس من الغريب مشاهدة نساء سافرات في شوارع احياء طهران الشمالية الثرية.

ورغم ان معظم جوانب الحياة الشخصية تخضع لمراقبة سلطات واجهزة الدولة، لكن الكثير من الايرانيين لا يأبهون بالالتزام بمثل هذه الضوابط والقوانين التي يعتبرها البعض مدعاة للسخرية. في عام 2014 سجل عدد من الرجال والنساء شريط فيديو ظهروا فيه وهم يرقصون على اغنية “Happy” للمطرب الامريكي فاريل وليامز وقاموا بنشره على اليوتيوب تحت عنوان “سعداء: نحن من طهران” . قامت السلطات بتعقبهم واعتقالهم بسبب مخالفتهم للقوانين التي تحظر الرقص مع الجنس الاخر، وحكموا على اثرها بالسجن لسنة واحدة مع جلد كل واحد منهم 90 جلدة.

تذكرني ايران كثيرا باوربا الشرقية خلال الثمانينات حينما كان الناس القابعون تحت النظم الشيوعية المتصلبة يتعاملون مع واقعهم اليومي كأنما لا وجود للحكومة. في ليلة من الليالي كنت حاضرا في احدى الحفلات المنزلية في حي من احياء الطبقة الوسطى في طهران، حيث انغام موسيقى الاغاني الايرانية الراقصة ونساء بملابس قصيرة واحذية جلدية وشعر مكشوف تماما مع قناني العرق والنبيذ اللذيذ المصنوع منزليا مصفوفة بعناية على الطبلات.

أسرّ لي أحد الحضور بأن الحفلات المنزلية اصبحت شائعة جدا، بحيث استطاع هو ان يكسب رزقا منها في عمله كـ”دي جي”، وقال ان الشرطة عادة ما تأتي بحجة ان الموسيقى عالية ولكنهم سرعان ما ينصرفون برشوة صغيرة. واشتكى لي رجل اعمال عن صراعه اليومي من اجل ادامة العمل في شركته الخاصة في وسط بيئة وصفها بالغير مستقرة مع نظام فاسد حيث شحة المواد و إدمان المسؤولون على الرشاوي. “يقولون لي عليك بالتخطيط لموسم العمل القادم، كيف وانا لا استطيع التخطيط لغداً في وضع مثل هذا؟!”

يشكل الاحباط الناتج من تدخل السلطات السافر في الحياة الخاصة للمواطن الايراني احد اهم اسباب الاضطرابات واعمال الشغب، التقيت ذات أمسية بشابة تدعى “سارا” كانت احدى المشاركات بتظاهرة داعية لفتح ملاعب كرة القدم للمتفرجات. فقد تصاعدت موجات الاحتجاج في هذا الصدد عام 2018 حينما تجمع حوالي 35 امرأة من زميلات سارا خارج ملعب لكرة القدم في طهران كانت تجري فيه مباراة بين ناديين ايرانيين مطالبات بالسماح لهن بالدخول. كانت هذه محاولة للعمل على المكشوف ما كانت تقوم به زميلاتهن بالخفاء لسنين عن طريق اخفاء اثدائهن بلباس ضاغط ورسم شوارب على وجوههن وارتداء ملابس رجال ثم الدخول الى الملعب بهيئة رجال. قامت السلطات باعتقال النساء الخمسة وثلاثين جميعهن وايداعهن السجن.

فقد قمع النظام الايراني بشدة كل مظاهر الحراك النسوي. في عام 2017 تسلقت امرأة تدعى “فيدا موحّد” عمود كهرباء بوسط العاصمة وقامت بخلع حجابها ملوّحة به على عصا. كرّر عدد من النساء نفس الفعل حتى اصبح ذلك الشارع يسمى شارع فتيات الثورة. قامت السلطات على اثرها باعتقال فيدا والاخريات ومن ضمنهن محامية فيدا واسمها نسرين ستوده والتي حكمت بالسجن لـ38 سنة مع 148 جلدة.

كانت سارا تخشى ملاقاتي في العلن حيث قالت مشيرة للقاء: “هذا خطر للغاية، فمجرد جلوسي هنا للتحدث معك سيسبب لي الكثير من المشاكل فيما بعد” ومع ذلك كانت مصممة ومصرة على اخذ حقوقها كاملة، قالت سارا ايضا: “اذا تريد ان تعرف حقا كيف نعيش فعليك بمشاهدة فلم “حكاية الخادمة The handmade tail” هناك تجد الحقيقة، اذ يبدو ان مارغاريت اتوود كتبت قصتنا قبل ان نولد”.

وفي السنة الماضية تم اعتقال سحر خُداياري ذات الـ29 عاما بينما كانت تحاول التسلل الى ملعب لكرة القدم وحكم عليها بتهمة الظهور في العلن بدون حجاب وعلى اثر الحكم اشعلت سحر النار بجسدها وماتت.

بعد ذلك تنازلت السلطة قليلا، وتحت ضغط من الفيفا بدأت السلطات الايرانية بالسماح للنساء الدخول الى ملاعب كرة القدم كمشجعات للفريق الوطني فقط اذا لعب مقابل فريق اجنبي.

وصفت سارا شعورها وهي تدخل ملعب طهران الدولي لاول مرة بغبطة غامرة لمشاهدة مباراة إيران ضد كمبوديا: “ساحة الملعب كانت خضراء فعلا”. رغم ان النساء وضعن في جناح خاص خلف المرمى محاط بحبل الا ان ذلك لم يمنعهن من الشعور بالبهجة: “الكل كان يصرخ ويبكي، لقد كان ذلك بمثابة حلم لنا”.

سألت سارا لماذا تعنى الحكومة الايرانية نفسها بأمور تافهة مثل لعبة لكرة القدم. أجابت: “السلطات تعلم بأن اذا ما فتحوا ابواب الملاعب فعليهم فتح ابواب اخرى واخرى. أنا اعلم يقينا ان نساء هذا البلد لن يتوقفن وانا مستعدة للذهاب الى السجن ان تطلب الامر ذلك”. وقالت ان جميع صديقاتها يتملكهن نفس الشعور تجاه السلطة: “مشكلتهم معنا انهم يدركون تماما انه اذا ما حصلت المرأة على نفوذ فانها قادرة على اسقاطهم وهذه حقيقة. النساء قادرات على اسقاط الحكم”.

يتبع….

أقرأ أيضا