نشرت مجلة “نيويوركر” الامريكية مقالا مطولا للصحفي الأمريكي المختص بشؤون الشرق الأوسط “ديكستر فيلكينز” حول طبيعة النظام الإيراني وصعود المرشد الايراني الأعلى علي خامنئي ومستقبل النظام في ظل المعارضة الداخلية ووباء كورونا، تنشر “العالم الجديد” ترجمته التي أعدها د. محمد المالكي على أجزاء:
الفصل الاول: إيران والكورونا
في ليلة من ليالي ديسمبر الماضي، طُلب من كبير الأطباء المقيمين في مستشفى في مدينة جرجان الإيرانية التشاور بشأن حالة سريرية محيرة حيث كان أحد المرضى يعاني من فيروس غامض، وكان هذا الفيروس يتقدم بسرعة مذهلة في جسده. قام الطبيب واسمه آزاد (أصر على عدم ذكر اسمه الكامل خشية انتقام السلطان منه فيما بعد) بإجراء فحص بالأشعة المقطعية (المفراس) وسلسلة أخرى من الأشعة السينية على صدر المريض، ولكن الفيروس كان قد تمكن من جسمه تماما قبل أن يتمكن الطبيب من تحديد أي علاج. وبعد قراءة التقارير الواردة من الصين، استنتج الطبيب أن سبب الوفاة كان فيروس كورونا. وقال لي انه لم يرى شيئًا يشبه هذا من قبل.
وبعد ذلك بدأ المزيد من المرضى في القدوم للمستشفى الذي يعمل فيه آزاد، في الاول على شكل افراد، ولكن مع مرور الوقت بدأ المرضى يتوافدون على المستشفى على شكل حشود كان معظمهم على وشك الموت. وعندما نبه آزاد وزملاؤه من الاطباء مسؤولي المستشفى بأن هولاء المرضى مصابين بفيروس كورونا، قيل لهم أن لا يبوحوا بشيء من هذا مطلقا. وقد أسر طبيب آخر لي انهم قد تلقوا تعليمات خاصة بعدم نشر أي إحصائيات حول معدلات الإصابة والوفيات جراء الوباء وجاء امر رسمي يحتم على الكادر الطبي بعدم ارتداء الأقنعة أو الملابس الواقية، اذ لم تكن الاولوية بنظر المسؤولين هو منع انتشار الوباء بقدر ماكان “منع الخوف في المجتمع، حتى لو كان ذلك يعني ارتفاع عدد الضحايا بين منتسبي الكادر الصحي” حسب وصف آزاد. ومع مرور الأسابيع، وتفجر الوباء في الصين، ظلت وسائل الإعلام الإيرانية صامتة عن تفشي الوباء. وحتى حينما بدأت الروايات عن الاصابات تظهر على وسائل التواصل الاجتماعي قرر محرري الصحف الايرانية الرسمية عدم ملاحقة هكذا اخبار والنشر عنها حسب ما ذكره صحفيين يعملان في منفذ اخباري في العاصمة طهران. السبب كان هو أن نشر أخبار من هذا النوع كان قد سيؤثر سلبا على مجرى الانتخابات البرلمانية المقرر إجراءها في 21 فبراير الماضي إذ كان يعتقد انها قد تثبط قدوم الناس للانتخاب. قال لي أحد الصحفيين: أن نوع القصص التي يمكن أن تسبب لناشرها العديد من المشاكل هي تلك التي يعتقد انها تسبب في خفض الإقبال على الانتخاب وبالتالي تصب في مصلحة أعداء الثورة، ولا أحد يريد أن تلصق به تهمة العمل لصالح المجاميع المعارضة للنظام وخاصة الاجنبية منها. كما أن المسؤولين كانوا قلقين بشأن العلاقات مع الصين، وهي واحدة من الدول القليلة التي استمرت بشراء النفط الإيراني منذ فرض العقوبات الاقتصادية من قبل الولايات المتحدة.
وحتى بعد أن تم الإعلان عن تفشي المرض في مدينة ووهان الصينية، واصلت شركة الطيران الايرانية ماهان رحلاتها المباشرة هناك، ومعروف ان الجهة التي تسيطر على شركة ماهان للطيران هي الحرس الثوري والذي يبدو انه الان يعمل وبشكل متزايد كحكومة ظل في إيران أكثر من كونه مجرد جيش أو قوة امنية.
قبل يومين من الانتخابات وتحديدا في 19 فبراير، أعلنت الحكومة الإيرانية أخيراً عن وفاة شخصين بسبب كورونا (تقريبا شهرين بعد حدوث وفاة أول حالة) وقد اثار الخبر موجة من السخرية والتهكم في غرفة أخبار في طهران اذ قال احد المراسلين: “أبلغتنا الحكومة عن حالات وفاة قبل الإبلاغ عن أي إصابات” و”لكن هذا هو حال الحياة في الجمهورية الإسلامية.” وبحلول ذلك الوقت كان مئات المرضى يتوافدون على المستشفى في جرجان حيث تراكمت الجثث الى درجة ان حكومة المدينة استأجرت حفارًا آلياً (كرين) لحفر الكثير من القبور. قال الطبيب الثاني: “كان الوضع أسوأ من معاملة الجنود في ساحة المعركة”.
وبعدها سرعان ما أصبحت إيران مركزًا عالميًا لوباء كورونا، حيث تم الإبلاغ عن ما يقرب من سبعين ألف حالة إصابة وأربعة آلاف حالة وفاة. لكن الحكومة استمرت بالرقابة المشددة على المعلومات. ووفقا لوثيقة رسمية مسربة أمر الحرس الثوري المستشفيات بتسليم قوائم عدد الموتى له قبل إعلانها للجمهور. قال دكتور آزاد: “كنا ندفن ثلاثة إلى أربعة وحتى خمسة أضعاف عدد الأشخاص الذين تعلن عنهم وزارة الصحة. كان من الممكن أن نتعامل مع الوباء بشكل أفضل وكان بإمكاننا استخدام الحجر الصحي مبكرا، وكان بإمكاننا اتخاذ احتياطات مثل تلك التي قام بها الصينيون في “ووهان” ولكن!
في 24 فبراير ظهر نائب وزير الصحة إيرج حريرتشي في مؤتمر صحفي وقام بنفي التستر على حجم الإصابات ولكنه بدا حينها شاحب اللون ومرتبكاً وكان يمسح العرق مرارًا من على جبينه. في اليوم التالي تبين انه كان مصابا بالفيروس أيضا. وفي منتصف مارس، نشرت صحيفة واشنطن بوست صور أقمار صناعية لمقابر جماعية بدت كأنها قد حفرت حديثًا.
بعد بضعة أسابيع قام سجناء ايرانيون بأعمال شغب في عدة سجون في جميع أنحاء البلاد خشية تفشي الفيروس بينهم. واجه الحرس أعمال الشغب تلك بفتح النار عليهم وقتل خمس وثلاثين منهم على الأقل. واصبح من الواضح ان الوباء بدأ يقضي على ما تبقى من اقتصاد ايران المنهك جراء العقوبات حيث طلبت إيران من صندوق النقد الدولي قرضا طارئا قيمته خمسة مليارات دولار وكانت هذه هي المرة الأولى منذ ما يقرب من ستين عامًا التي تطلب فيها الحكومة الايرانية مساعدة من صندوق النقد اذ طالما وصفت الصندوق كأداة أخرى من أدوات الهيمنة الأمريكية.
الفصل الثاني: ايران خامنئي
ومع حالة التشنج المتزايد التي تعاني منه البلاد نوه المرشد الأعلى للنظام الدينوسياسي في إيران “علي خامنئي” الى دور الولايات المتحدة وحلفائها بنشر سلاحا بيولوجيا ـ حسب وصفه ـ مشيرا لوباء كورونا. وقال في خطاب ألقاه في مارس الماضي: “الأمريكيون متهمون بخلق هذا الفيروس”، “هناك أعداء على هيئة شياطين، وهناك أعداء على شكل بشر يساعد بعضهم البعض حيث تتعاون أجهزة الاستخبارات في العديد من البلدان مع بعضها من اجل النيل منا”.
في الوقت الذي كان يتحدث فيه خامنئي عن المؤامرة البيولوجية كان الفيروس قد تسلل اكثر فاكثر ليصيب أشخاصا في اعلى المستويات داخل النظام الايراني والذي يشغله الكثير من المسنين اذ اصيب حوالي 50 من رجال الدين والشخصيات السياسية المعروفة وتوفي منهم ما لا يقل عن 20، وقد أشيع ان المرشد ذاته قد حجر نفسه عن الاتصال بالناس رغم ان الأشخاص العاملين في دائرته الخاصة كانوا معرضين للإصابة اذ أصيب فعلا اثنان من نواب الرئيس وثلاثة من مستشاريه. والجدير بالذكر ان قدرة الفيروس الهائلة على الوصول لأي شخص مهما كان، قد عزز من شعور الإيرانيين بالأزمة الحادة. خامنئي الذي يقود ايران منذ ١٩٨٩ يبلغ من العمر ٨٠ عامًا وقد نجا من سرطان البروستات، يشاع عن انه في حالة صحية سيئة مما يثير قلقا وتساؤلا عن مصير ايران بعد موته.
في فبراير الماضي قمت بزيارة سرية لمنزل زعيم إصلاحي في طهران كان قد قضى عدة سنوات في السجن لكنه لا يزال على اتصال مع مسؤولين حكوميين ذوي ميل اصلاحي مشابه، وقد كنت قلقا من أن الزيارة قد تشكل خطرا عليه حيث سلكت طريقا ملتويا إلى شقته وفي منتصف الرحلة خرجت من سيارة الأجرة الخاصة وسرت ماشيا على الأقدام قليلا واستأجرت تاكسي اخر. أخبرني هذا المسؤول بأن البلاد وصلت إلى مرحلة لا رجعة منها فقد انهارت ثقة الجمهور بالنظام الذي جاء للسلطة عقب الثورة الإيرانية عام 1979 تماما.
بعد فترة وجيزة من توليه السلطة وعد خامنئي الإيرانيين بأن الثورة “ستقود البلاد على طريق التنمية والتقدم” ولكن الذي حدث بدلا من ذلك ان رجال الدين جعلوا من ايران بلادا مُعطلة اقتصاديًا ومنقطعة إلى حد كبير عن بقية العالم. وقد أدت العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة في عام 2018 ـ بعد أن ألغى الرئيس ترامب الاتفاق النووي بين البلدين ـ إلى تفاقم تلك الإخفاقات وزادت من فساد النخبة الحاكمة. قال المسؤول الايراني أيضا: ”أود أن أقول بأن 85 في المائة من السكان يكرهون النظام الحالي وأن النظام اصبح عاجزا عن إصلاح نفسه من الداخل”.
تنتشر التكهنات في المستويات الحكومية العليا الحكومة والمؤسسة العسكرية حول ما بقي لخامنئي من عمر، وقد ذكر المسؤول الإيراني آنف الذكر بان ”الاقتتال من أجل خلافته قد بدأ فعلا”. ومن المهم ذكر أن خامنئي أمضى عقودًا من الزمن بوضع موالين له في جميع المؤسسات المهمة في البلاد، وقام ببناء نظام يخدمه هو وحده ويحميه. قال المسؤول: “خامنئي مثل الشمس والمنظومة الشمسية تدور حوله، ولك ان تتخيل ما يحدث للنظام الشمسي عندما تخرج الشمس منه، فوضى!”.
قبل أن تحدث الثورة (وتغير بفعلها معالم إيران بالكامل) كان خامنئي الشاب رجل دين عادي في مدينة مشهد. وقد نشأ نشأة متواضعة كابن لرجل دين وكان في حينها رجلا نحيفا بوجه طويل ورفيع تزينه نظارات مستديرة كبيرة. يعد خامنئي من أنصار الشعر والأدب الفارسي ومعجبا بتولستوي، وستينبيك وفيكتور هوغو، الذي وصف كتابه البؤساء بـ”المعجزة” وقال عنه انه ”كتاب علم اجتماع وكتاب تاريخ وكتاب نقد، وانه كذلك كتاب إلهي وكتاب عن الحب والشعور”. وتأثر خامنئي أيضاً بالمفكرين الإسلاميين الراديكاليين في عصره، ولا سيما سيد قطب، الذي اثنى على استخدام العنف ضد أعداء الدين. الا انه في الأجواء العائلية والخاصة كان خامنئي يحتفظ بأفكاره الراديكالية لنفسه اذ ذكر أحد أقاربه الذين نشأوا معه ”أنه كان كثيرا ما يعانق الناس ويقبل الأطفال ويتحدث بعطف معهم، ولكنه عندما يرتدي الزي السياسي يصبح شخصا اخر، شخص سيئ وعدواني.”
في الفترة التكوينية لافكار خامنئي كانت البلاد في حالة اضطراب ففي عام 1953 أدى انقلاب مدعوم من الولايات المتحدة إلى ازاحة محمد مصدق رئيس الوزراء المنتخب واستبداله بمحمد رضا بهلوي شاه إيران الذي سيطر على البلاد بمساعدة من الولايات المتحدة وقوة من الشرطة السرية. وفي السنوات التي تلت ذلك، أثار آية الله المنفي في العراق “روح الله الخميني” معارضة شديدة ومتزايدة ضد حكم الشاه مبنية على فكرة دولة بقيادة رجال دين تكون مسؤولة فقط أمام الله وتعارض المفاهيم الغربية للحداثة وتكون بمثابة الحل الوحيد القادر على النهوض بالبلاد من عقود طويلة من الإذلال.
اعتنق خامنئي نظرية الخميني الثورية، وبدأ بالترحال عبر البلاد يحث رجال الدين على إيقاظ رعاياهم (ثوريًا) وبعد فترة وجيزة تزوج بامراة اسمها منصورة، قالت في مقابلة مع مجلة نسائية إيرانية عام 1993: “في الأشهر الأولى من زواجنا، سألني زوجي،” كيف ستشعرين إذا تم اعتقالي؟” كنت مستاءة للغاية في البداية، لكنه بعد أن تحدث عن المخاطر والمشكلات المحدقة وكيف أن ذلك يعد واجبا على كل الناس أقنعني بالامر تماما”.
سُجن خامنئي ست مرات على يد شرطة الشاه السرية بما في ذلك سجنه عام 1974 بطهران على يد (اللجنة المشتركة لمكافحة التخريب). كان معه في الزنزانة رجل يدعى “هوشنك أسدي”، يقول اسدي واصفا خامنئي: “كان رجلا متشددا لكنه لطيف نوعا ما بحيث كان يقدم الطعام لزملائه السجناء بعد كل جلسة من جلسات التعذيب” و”كان يقرأ القرآن بصوتٍ عالٍ ويبكي هائما في كلمات النبي، وأحيانا يحدق في السماء عبر قضبان زنزانته.
كان اسدي ملحدا ويفضل قضاء الوقت في الترفيه عن زملائه عن طريق كم هائل من النكات. قال أسدي (عندما التقيت به في باريس حيث يعيش في المنفى الان): “كان خامنئي يشعر بالضجر كلما القيت بطرفة فيها إيحاء جنسي ويناشدني بالتوقف”، ”ولكن ذلك لم يمنعني من القاء النكات الجنسية على أية حال لأن الاخرين كانوا يحبونها”.
بعد فرار الشاه في العام 1979 ومجئ الخميني للحكم كمرشد اعلى للبلاد، تم تعيين خامنئي نائبا لوزير الدفاع وكذلك إماما لجمعة طهران. لقد بدأ الأخير مشواره السياسي في ظل أزمة، إذ سبق ذلك بوقت قصير اقتحام مجموعة من الشباب المتعصبين السفارة الأمريكية وخطف 52 رهينة، معظمهم من الدبلوماسيين بحجة الاتهام بالتجسس. استمر ذلك الحصار لـ444 يومًا وقضى في النهاية على أي أمل بتقارب أمريكي إيراني مبكر.
في البداية عارض خامنئي الاستيلاء على السفارة، لكنه عاد لتأييده بعد ذلك، عندما أصبح من المستحيل التراجع. وقد ذكر جون ليمبرت وهو مسؤول سياسي كان من ضمن المحتجزين في السفارة أنه بعد مرور عدة أشهر على المحنة زاره خامنئي مع طاقم تصوير بهدف إظهار أن الرهائن كانوا يعاملون بشكل جيد، لكن ليمبرت قام بقلب الطاولة على ضيفه (مجازيا) متظاهرًا بأنه هو الذي كان يستضيف خامنئي في منزله وليس العكس اذ قال لي ليمبرت: ”اعتذرت لخامنئي لأنني لم أتمكن من تقديم أي شيء يأكله أو يشربه بسبب ظروف الحجز السيئة”، وردا على ذلك “لم يعتذر خامنئي، ولكنه بدا مرتبكاً ومحرجاً وكان يعلم أنني أسخر منه”.
تدريجيا استطاعت الحكومة الثورية الجديدة إرساء قواعد حكمها، لكنها لم تكن مسيطرة بالكامل وفي عام 1980 أرسل صدام حسين جيشه عبر الحدود وبدأ حربا كارثية استمرت ثماني سنوات، نتج عنها قتل ما لا يقل عن مليون شخص تم أثناءها أيضا استبعاد الجماعات اليسارية التي حاربت إلى جانب الإسلاميين قبل انتصار الثورة. وعندما قاد الخميني حملة تصفية على حلفائه السابقين، قاوم البعض منهم وكان من بين هؤلاء منظمة مجاهدي خلق وهي جماعة متطرفة كان صدام حسين يدعمها بالمال وأنشأ لها معسكرا شاسعا في داخل العراق كان يسودها جوّ يشبه الى حد بعيد سلوك العصابة الدينية، حيث كان يحضر فيه الزواج وكان يطلب من الاعضاء تدوين أفكارهم الجنسية في دفاتر الملاحظات الخاصة. اقتصرت مهمة منظمة مجاهدي خلق على شن حملات اغتيال وهجمات ارهابية عبر الحدود على مدى عقد من الزمن.
في يونيو من عام 1981 وبينما كان خامنئي يستعد لإلقاء خطبة في مسجد أبي ذر في طهران، انفجرت قنبلة كانت قد زرعت في جهاز تسجيل موضوع أمامه أصيب على اثرها بجروح خطيرة، ووفقا لروايته الخاصة للحادث كان قد توقف نبضه، وفقد السمع باحدى أذنيه وشلت ذراعه اليمنى. لكنه بعد حين علق على الإصابة بقوله: ”لن أحتاج يدي ويكفيني ان دماغي ولساني يعملان بشكل صحيح.” ولكن الناس الذين يعرفونه جيدا قالوا إنه قد تغير كثيرا بعد الإصابة حيث لاحظ احد أقربائه الذي نشأ معه أنه يصافح الناس بيده اليسرى فقط. واضاف قائلا: ”طوال 40 سنة لدى خامنئي قطعة من اللحم تتدلى من جسده ولا تزال تسبب له الألم.. لقد جعلت تلك الصدمة من خامنئي شخصًا غاضبًا للغاية من الداخل وحاملا ضغينة ضد الناس”. بعد أشهر قليلة من الهجوم تم انتخاب خامنئي رئيسًا لايران.
وبعد ثماني سنوات من تعيين خامنئي رئيسا، توفي الخميني تاركا الثورة بدون شخص يوحدها. ووفقا للدستور الإيراني يتم اختيار المرشد الأعلى من قبل مجموعة من كبار رجال الدين يطلق عليهم مجلس الخبراء. كان خامنئي عضوًا في المجلس لكنه لم يكن عضوًا عالي المستوى وليس مفضلاً لهذا المنصب بأي حال من الاحوال. في النهاية تم اختياره على يد علي أكبر هاشمي رفسنجاني أحد أبرز القادة السياسيين في ذلك الوقت والذي كان قد حل محل خامنئي كرئيس. يعتقد الكثيرون أن رفسنجاني رأى في خامنئي شخصا يسهل التلاعب به وتوجيهه، وفعلا عندما تم الإعلان عن الاختيار خطب خامنئي بالمجلس معلنا عن افتقاره للخبرة في اللاهوت الإسلامي، وقال معقبا ”أنا حقا لا أستحق هذا اللقب”، وأن ”ترشيحي هذا يجب أن يجعلنا جميعًا نبكي دما”. اعتبر المراقبون ذلك التعليق مجرد عرض كلاسيكي في التهذيب المفرط المتعارف عليه لدى الفرس، وليس بالضرورة ان خامنئي كان مخلصا ويعني ما يقول.
منحت الوظيفة الجديدة خامنئي سلطة مطلقة على البلاد، مكنته من السيطرة على كل فرع من فروع الحكومة، بالإضافة إلى التحكم الكامل بالقوات المسلحة، وكذلك الاشراف على القضاء، وبمرور الوقت ظهر خامنئي بمظهر المستبد الذكي عالي النشاط والحيوية، اذ قام بخلق هيكل موازٍ في كل مؤسسة. يعلق “مهدي خلجي” رجل الدين الشيعي السابق في إيران والذي يعمل زميلًا في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى: “بهذه الطريقة أبقى خامنئي الجميع ضعفاء”. كما أشرف خامنئي أيضًا على أكبر عملية تركيز للثروة في البلاد على هيئة مجموعة من الصناديق النقدية المؤسسية المبنية على ممتلكات تم الاستيلاء عليها من النخبة الشاهنشاهية والتي بلغت قيمتها مئات المليارات من الدولارات.
بحلول ذلك الوقت، كان لخامنئي أربعة أبناء وابنتان وقد قام بنقل الأسرة إلى منزل وسط طهران في نهاية شارع فلسطين محجوز بجدار عال عن الجمهور. بمضي الوقت اتسع مكان المنزل ليكون على شكل مجمع يحتوي على حوالي 50 مبنى، لكن خامنئي استمر بعرض نفسه للناس كزاهد يرتدي الملابس البسيطة ويتناول الطعام البسيط. قالت منصورة زوجة خامنئي لمجلة النساء المذكورة أعلاه ”ليس لدينا أي زخارف وديكور في البيت ومنذ سنوات حررنا أنفسنا من هذه الأشياء.”
في عهده، تحرك النظام بشراسة ضد أعدائه وواصل جهوده لملاحقة واغتيال المعارضين في المنفى، حيث قتل منهم ما يصل إلى 160 شخصًا في أنحاء شتى من العالم، كما قاد حملة شرسة ضد مجاهدي خلق تم خلالها اعدام عشرات الآلاف من اعضاء المنظمة. ومن الملاحظ ان الرجل الشغوف بالأدب والمؤمن بقوة تأثيره على المجتمع، جعل من الكتّاب والمثقفين المنشقين هدفا، حيث تم حظر الكتب وأغلقت الصحف وسجن الفنانون. مع أنه كان يردد ”يجب أن يكون الشعر طليعة القافلة الثورية”.
على مر السنين دفع الإصلاحيون من داخل وخارج الحكومة باتجاه تعزيز سيادة القانون والسماح للصحافة بقدر أكبر من الحرية، وكذلك الحد من الانتهاكات التي ترتكبها قوات الأمن، ولكن مرارا وتكرارا كان خامنئي بالمرصاد لأي جهد جاد باتجاه منح الحريات حتى جاءت إحدى أبرز اللحظات في عام 1997 عندما فاز مرشح إصلاحي يدعى “محمد خاتمي” بالرئاسة بفوز ساحق. لكن عندما بدأ خاتمي في تنفيذ أجندته الإصلاحية، واجه مقاومة فورية من داخل النظام، وفي وقت مبكر من ولايته حينما كانت البلاد تهتز إثر موجة غير مسبوقة من الاغتيالات، حيث قتل حوالي 80 فنانًا ومثقفاً معارضا تم تشويه بعضهم وطعن أو قتل الاخرين بحقن قاتلة.
استغلت الصحافة الايرانية الحرية الجديدة التي سمح بها خاتمي، ونشرت سلسلة من التحقيقات التي كشفت أن جرائم القتل كان قد نفذها عناصر من وزارة المخابرات والأمن من اجل ترويع ابرز أنصار خاتمي. ورداً على ذلك، أغلقت الحكومة الإيرانية صحيفة “سلام” بسبب نشرها تقارير قوية عن الفضيحة، وعلى اثر الفضيحة أيضا بدأت احتجاجات واسعة في جامعة طهران سرعان ما امتدت إلى الكليات في جميع أنحاء البلاد.
عبّر خامنئي في البداية عن اشمئزازه من عمليات القتل، ولكن عندما أصبح واضحًا لديه أن هدف المتظاهرين تهديد سلطته انقلب عليهم، حيث هاجمت قوات الأمن القسم الداخلي للطلبة في جامعة طهران، مما أسفر عن مقتل أربعة طلاب وإصابة 300 واعتقال 400 آخرين. وقد علق خامنئي على ذلك الحدث بقوله: “ان المسؤولين في الحكومة، وخاصة المسؤولين في الأمن العام تلقوا تعليمات صارمة لإخماد العناصر الفاسدة ببصيرة وقوة”. ترك خاتمي منصبه في عام 2005 بعد ان اصبح عاجزا تماما.
في الذكرى السنوية الحادية والأربعين للثورة (١١ شباط فبراير الماضي) كان من المقرر الاحتفال بالمناسبة وسط مدينة طهران، حيث كنت أتناول الفطور في مطعم، حينها سمعتني النادلة أناقش رغبتي بحضور الاحتفال. سألتني بسخرية: ”هل أنت فعلا ذاهب؟ هل تعلم انهم يجبرون الناس على التواجد هناك عن طريق الابتزاز؟ يهددون الناس إنهم إذا لم يذهبوا سيفقدون وظائفهم”.
كان الاحتفال على هيئة موكب يسير في شارع الاستقلال لأكثر من ميلين، وعلى طول الطريق ترى لافتات انتصار الثورة وصور كبيرة لخميني وخامنئي. بدت الاحتفالات ضعيفة ولم يكن فيها سوى فرق صغيرة من المتطوعين يرعون اطفالا بمعاطف ثقيلة من شدة البرد.
كان بعض الحاضرين يصرخ بشدة ”الموت لأمريكا” و”الموت لإسرائيل”. ولكن عندما قدم رئيس البلاد حسن روحاني إلى منصة المحاضرة في ساحة الحرية عن السكوت المطبق على المحتفلين قبل ان يستمر معظم الناس في التحدث مع بعضهم البعض. قالت لي امرأة تدعى مجيدة: “وعد روحاني أنه بعد الاتفاق النووي سيتم حل معظم مشاكلنا. قررنا أن نؤمن بالمعجزة. انظر ماذا حدث!”
ذلك الشعور بعدم الواقعية اثناء الاحتفال ظل يرافقني طوال فترة وجودي في إيران حتى ظروف وصولي الى هناك بدت لي ساخرة، حيث كنت أطلب لسنوات إذنًا للزيارة جوبهت بالرفض مرارا الى ان تلقّيت مكالمة غير متوقعة من دائرة الشؤون الإيرانية في واشنطن أبلغوني فيها أنه قد تمت الموافقة على التأشيرة. (علق بعض الإيرانيين بالقول إنه مع ارتفاع حدة التوترات الدولية واستمرار الوباء في مراحله الأولى، أراد النظام إظهار الثقة بنفسه). قالوا لي إن التأشيرة سارية المفعول الان لكنها ستنتهي في غضون ستة أيام. لم يكن بوسعي الا ان أهرول الى المطار سريعا.
يتبع….