صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

شكرا كورونا!

من أيّ باب شئتَ أن تستقبل الشكر. وبأيّ عنوان شئتَ استقبالَه منا.. سواءٌ هو، جئناك بعنوان المؤمن الذي يحمد إلهَه على كلّ حال.. أم بعنوان المتفائل الذي يرى في كلّ ظلمةٍ نقطةَ ضوء، ونافذةً يشرف منها على الجميل المختفي تحت ركام القبح المهيمِن على العالم اليوم.

شكرا كورونا؛ إذ بدأنا بفضلك ننعم التذكرَ أننا بقينا ذلك الذي”يفسد فيها ويسفك الدماء”، حتى صار لزاما ألا تسجد الطبيعةُ لنا، بل نسجد نحن تحت قدميها متوسلين الرحمةَ والغفران، أيّا كان الانتقامُ، وكيف يراه البشرُ اليوم؛ إلهيا أم طبيعيا فإننا لا محالةَ موضوعٌ بليغٌ له.

شكرا كورونا؛ لأنك الكائنُ الوحيدُ الذي استطاع جبروتُه أن يمنح الأرضَ فرصةَ استراحةٍ من جَور البشر واستهتارهم، علّها تستطيع استردادَ شيء من نقائها وصفائها الذي عكّره صخبُ نزعته نحو التمرّد على قوانينها، وجنونُ نزعته نحو تسخيرها وامتلاكها؛ ذلك الذي وصفه مارتن هيدغر بانكشاف حقيقة التقنية الحديثة، إذ تبقى الطبيعةُ منذورةً لرغبتنا المحمومة في تطويعها من أجل استنزاف كلِّ ما لديها، فلا نرى فيها إلا ما نريد منها، ولا نراها إلا من خلال منظارِه النفعي المَقيت. 

شكرا كورونا؛ لأنك وبقوةٍ جعلتَنا ننشغل عن أحقادنا، ومعاركنا، وحروبنا، ونزاعاتنا، عن عدائنا الدموي المزمن، ونتجه صوبك وحدك، عدوَّ اليوم وما شاء القدرُ من أيام.

شكرا كورونا؛ لأنك أجّلتَ سيناريوهاتِ صراعاتنا إلى أجلٍ غيرِ مسمى، وأدخلتنا في هدنة إجبارية ننسى فيها أن لنا أعداء غيرَك، شكرا إذ استبدلتَ ألوانا وأنواعا من العداوات بعداوةٍ واحدة.

شكرا؛ لأنك سفّهتَ كلَّ دعوةٍ لاختراعِ عدوٍّ أو توهم عدوّ.. شكرا؛ لأنك سحبتَ البساطَ من تحت كمٍّ مرعبٍ من أسبابِ دمار العالم الشامل، وذكّرتَ من يستمدون قوتهم  وسطوتهم وهيمنتهم من امتلاكها، أن للدمار الشامل سببٌ آخر عابرٌ لمعادلات سباق امتلاكها، وأن العالمَ قد يمتلك سببا وراءَ أسبابنا، وفوقَها، لتدميرِه والقضاءِ علينا.

شكرا؛ لأنك وقفتَ بشجاعةٍ وقفةَ المقتدِر الساخر من ترسانات الموت الشامل التي يلوّح بفضلها أباطرةُ هذا العالم، أنظمةً وأشخاصا، بلحظةِ الصفر التي تُنهي كلَّ شئ أمامنا كلّ يوم، كأنها قنبلةُ العدم التي تتحكم أيديهم بساعتها.

شكرا؛ لأنك غيّرتَ وجهَ العالم الى حيث يجد الإنسانُ نفسَه إزاءَ قصةِ عبثه اللامنتهيةِ بكلِّ شئ حتى نفسه.. شكرا؛ لأنك ستغيّر وجهَ العالم الى حيث تُرجع الإنسانَ إلى رقعته التي ملَّ الانتماءَ إليها، بين مشاطريه من الكائنات.

شكرا؛ لأنك ذكرتنا أننا لسنا الوحيدين في هذا العالم، وأن من يشاركنا الوجودَ قد يملك في يومٍ ما القدرةَ المرعبة على إزاحتنا ببساطةٍ مفجِعة لجبروتنا، تذهل لها انتصاراتُنا الذكيةُ في الكون.. شكرا؛ لأنك أعدتَ رسمَ حدود شهوة التوسع، ربما للمرةِ الأولى في تاريخ البشر، وأصبتَها بحمى الانحسار التي تُضعفُ شهيةَ التمدّدِ نحو مساحة الآخر المحرَّمة.

شكرا؛ لأنك وجّهتَ صفعةً مؤلمةً لطريقتنا في تجاوز الحدود، والعبورِ نحو الآخر، وأريتنا أن لكونِ العالم قريةً صغيرةً معنىً آخر تحكيه الشفقةُ والتضامنُ والمحبةُ.. شكرا؛ لأنك وحّدتَ الألمَ، ووحّدتَ الخوفَ، ووضعتَ لهذا المُشتَرك عنوانا واحدا يطرحنا في لحظةٍ فارقةٍ من تاريخِ وجودنا في الكونِ ذاتا واحدة وموضوعا واحدا، هدفا واحدا وغايةً واحدة.

شكرا؛ لأنك وحّدتنا أكثر مما فعلتْ لوائحُ حقوقنا.. شكرا؛ لأنك أخرستَ صخبَنا المرتفعَ من هنا، وأسمعتَنا صرخةَ الألمِ القادمةِ من هناك.. شكرا؛ لأنك أشرتَ لنا، في لحظة توقف عجلةِ انشغالنا المسرعةِ نحو اللامعنى، الى المعنى الذي أمعنا في إسكاته، حتى لم نعد نعيه.. شكرا؛ إذ جعلتنا نتّحد طوعا، بلا سلطةٍ ممارَسةٍ علينا سوى الاتحادِ في المحنة وعواقبها.

شكرا؛ لأنك بدأتَ بامتحان الإنسانية، ها هي اليومَ بعد تاريخ كفاحها الطويل، إزاءَك، كابوسها الذي يكشف ما فيها من زائف، وما فيها من حقيقي.. شكرا؛ لأنك أيقظتَنا من أحلامِ يقظتنا الحديثة، وما بعد الحديثة، تلك التي حكى الزمانُ والمكانُ والأبطالُ فيها قصصَا عن تفوقنا فائقِ السرعة، وأبقانا طويلا نخشى انفلاتَ زمامِ السردِ الذي يخيِّل لنا كيف سنتفوق أكثر حتى نبدأَ بالتلاشي أمام ذلك الأكثر.

 شكرا؛ لأنك أرحتَنا من قلق التفوّق، بعد أن عبثتَ بساعته.. شكرا؛ لأنك أرحتَ الأرضَ من ضجيج نشاطنا المفرِط، وحركتِنا الدؤوبةِ اللامنتهية، وجعلتَ أرضَها وسماءَها يتنفسان الصعداء، ربما لمرةٍ واحدةٍ أو يشاءُ القدرُ لأكثر.

شكرا؛ لأنك عطّلتَ أجزاءَ مهمةً من ماكنةِ صناعةِ كلِّ شئ، فأرجأتَ أجلَ غيابِ الطبيعة في كلِّ شيء.. شكرا؛ لأنك وضعتَنا جميعا، في لحظةٍ واحدةٍ، على شفا جرفِ الموت، نتأملُ هاويتَه السحيقةَ معا، لندركَ حجمَ ما أضعناه من الحياة.

شكرا؛ لأنك أخرستَ أنكرَ أصواتِ الوحش الذي فينا، وقمعتَ جنونَ قسوتِه اللامعقولةِ في الأمسِ القريبِ من يومِ اجتياحك عالمنا.. شكرا؛ لأنك أفقتنا من حلمِ القدرة الفائقة، على حقيقةِ العجزِ الفائقِ الذي ينبغي أن لا ننسى أنه يخالط قدرتَنا المغرورة.

شكرا؛ لأن بنا حاجةً إلى محنةٍ بهذا الحجم؛ ليرى كلٌّ منا آخَرَه كما هو.. شكرا؛ لأن امتحانا كهذا ضروريٌّ لأن نجرّب ما لم نجرّبه في مختبراتنا.. شكرا؛ لأنك وضعتَ في حقيبة الناجين قصةً  ليرووها عن بني البشر يوما، تقصّ أثرَ فراشةِ قدرٍ كبير، وضعَ على محكِّه القاتلِ كل ما ادّعته مدنيتُهم وحضارتُهم، ومحّصَ جمالَهم وقبحَهم، إنسانيَّهم ووحشيَّهم.

شكرا؛ لأنك رسمتَ على وجه كلٍّ منا خارطةَ العالم وعليها علامةٌ حيثُ يقف.. شكرا؛ لأنك بُحتَ بأسرارنا، وأعلنتَ المختفي من ملامحنا، وفضحتَ كلَّ أكاذيبنا، وأفشيتَ بالذي خبّأناه خلف ما يُقال وما يُفعَل.. شكرا؛ لأنك أظهرتَنا للمرةِ الأولى بعد طولِ حفلتنا التنكرية في عالمنا عراةً.

شكرا؛ لأنك جرّدتَنا من كلِّ أسلحتنا؛ لتقولَ لها كفّي عن ادعاءِ القوة، ولتقولَ لنا كفّوا عن الضعفِ الذي يلجؤكم إليها.. شكرا؛ لأنك أجبتَ سؤالَ المحنةِ بجرأةٍ، وأعلنتَ عن مقاييسِ الحجوم، كم هو حجم كلٍّ منا؟ بحجمِ العالمِ، أم بحجم أناه المتناهيةِ في الصغر.

شكرا؛ لأنك أظلمتَ مسرحَ العالم فأحوجتنا بشدّةٍ إلى نقطةِ الضوءِ الكامنةِ في كلٍّ منا، وأشهدتَنا كم هو مرعبٌ ومدمرٌ أن نضيفَ الى ظلامِ العالمِ ظلمةً.. شكرا؛ لأنك صفعتَ وجهَ فلسفةِ الفرد، ولفتَ انتباهَ الذات وهي في حجرها الإجباري إلى مساحةِ الحاجة الى الكلّ من  كينونتها.

أقرأ أيضا