(1)
إيران- النجف- الشيعة- المواطن العراقي
في ثمانينيات ومعظم تسعينيات القرن الماضي، كان الخط أعلاه متوافقا ومنسجما داخليا. إيران البلد الأم للتشيع السياسي والحكومي، والنجف مصدر الروحانية والأدبية الشيعية، والمواطن العراقي ينظر للنجف بإجلال ولإيران باحترام. هذا الخط الآن تضعضع. إيران والنجف في تنافس على الزعامة الشيعية تصل أحيانا الى حد تآمر الواحدة ضد الآخرى. المواطن العراقي فقد الثقة بايران بشكل شبه تام، لأنه حين فتح الباب لها على مصراعيه في العراق راعت مصالحها على حساب الشيعي العراقي، ناهيك عن السني والكردي. والمواطن العراقي أيضا بدأ يفقد الثقة بالنجف ومؤسستها الدينية لسببين رئيسيين، هما: تدخل النجف في صناعة السياسة في العراق بعد صدام، وهو الأمر الذي نعلم جميعا أنه تعثر وفشل. والسبب الثاني كون النجف مؤسسة دينية بقدرة مالية هائلة أخفقت، حينما فشلت الحكومة وفسدت، في سد بعض الحاجات الضرورية لأبنائها من الشيعة.
الآن، لا يعد المواطن العراقي، والشيعي بشكل خاص، حريصاً على ديمومة نظام طهران كما كان يحرص بالسابق، لأن ديمومة هذا النظام تعني في نظره بقاء العراق في الفقر وفوضى السلاح والتأزم الأمني. ومع ذلك فإنه لا يرغب أيضا بأن تنهار القوة الشيعية الوحيدة في العالم. هذا من جانب.
ومن جانب آخر، فإنني لا أرى المواطن العراقي يهاب النجف كما كان في السابق أيضاً، لانه أيضا بدأ يقتنع أن ما كان يعتقده من أن النجف قوة عقائدية يمكنها أن تتحول، حينما يتاح لها ذلك، إلى أخلاقيات سياسية واجتماعية عملية، ما هو إلا مجرد سراب. كذلك فإن النجف والحوزة في أزمة مع الشباب العراقي! وهي أزمة حقيقية لأنها لم تجدد نفسها لتواكب الحداثة. ما كانت تبيعه الحوزة لأبي الفلاح المسكين من سرديات وفقهيات بالية مقابل الخمس وإيواء مبشّريها لم يعد نافعا معي! لا لأنني فسدتُ وأبي كان صالحاً، بل لأني قرأت مئات الكتب وحاورت آلآف البشر حول العالم وحضرت عدة جامعات حتى بدت لي النجف صغيرة قديمة لا تعني شيئاً. أدبياتها متهالة، وفقهياتها قديمة، وسردياتها ضحلة، وتدخلها السياسي فاشل.
السؤال الأهم هنا هو: بعد الخيبة مع إيران والخيبة مع النجف، بعد فقدان الثقة والتوافق مع إيران ومع النجف، أين نفعل نحن الشيعة المحبون للإمام علي وخطه؟
(2)
المرجعية صمام أمان
هذه كلمة يتداولها الكثيرون دون أن يفهموا معناها. معناها الحقيقي هو أن الأحزاب الإسلامية التي ولدت من رحم النجف تحتاج إلى صمام نجفي آخر يخفف من خلافاتها وإلا فإنها ستنفجر. صمام أمان على من؟ وبين من؟ بين الدعوة ومشتقاتها، المجلس الأعلى ومشتقاته، حزب الفضيلة وأمثاله، كلها من تأسيس مراجع نجفية عظمى. على ماذا نحصل نحن المصنفون خارج اللعبة هذه من صمام الأمان هذا؟ مزيدا من هيمنة هذه الأحزاب!!
هل نحن أمام صمام أمان بين السنة والشيعة (صمام أمان خربان لأن الدم وصل للركاب)؟! أم هو صمام أمان على الشعب ذاته!؟ وهل يحتاج الشعب المسكين إلى صمام أمان من هذا النوع؟
(3)
النجف الفقهية
من الناحية الفقهية لازالت النجف مؤثرة على شرائح عديدة من الناس. إنها مؤثرة بالرغم من فشلها سياسياً واجتماعياً! لا أقول أخلاقيا لأن الحوزة بذاتها ليست فاسدة، لكن دورها في تهذيب المجتمع أخلاقيا فشل أيضا. نعم، هناك حاجة لأب روحي لكل طائفة دينية بالعالم، وهذا حاصل ويحصل تاريخيا أيضا، ولكن السؤال هنا: هل النجف قادرة على تغطية هذا الاحتياج؟
(4)
النجف – قم
العلم يبدأ بفرضية، فإن اجتازت الفرضية بنجاح اختبارات لمنهجية العلمية تصبح حقيقة، ثم تشاع الحقيقة فتصبح معلومة عامة، وحينما تصبح معلومة عامة شائعة لا تحتاج الى تقديم البرهان الأولي. مثلا أقول إن الأرض كروية. هذه كانت نظرية وتم إثباتها وأصبحت الآن معلومة شائعة فهل حينما أتحدث الآن عن كروية الأرض احتاج إلى أدلة لإثباتها أم التسليم لشيوعها؟ موضوع التنافس بين قم والنجف هو من هذا القبيل! أمر أصبح معلومة شائعة لا تحتاج إلى برهان. كُتب عنه المقالات وعقدت حوله المؤتمرات. أنا مثلا عقدت مؤتمرا هنا في إميركا في السنة الماضية وكان أحد المدعوين سيد معمم مشهور أيضا. محاضرته كانت عن هذا الموضوع. لم ينكر الرجل أن هناك اختلافا في قضايا فقهية، لكن الاختلاف الجوهري هو الاختلاف السياسي حول كيفية قيادة المسلمين كونيا. مدرسة ولاية الفقيه تتحكم بدولة سكانها (105) مليونا، ولديها طاقات كبيرة، وتزعم أن قيادة المسلمين الشيعة فقهيا وروحيا لا تكون دون زعامة سياسية مباشرة، وهو الأمر الذي يوّلد، وبنحو طبيعي، تنافساً مع قيادة أخرى لا تؤمن بولاية الفقهية لكنها تتصدر الزعامة الشيعية في العالم.
في يوم من الأيام كنت أعمل طبيبا متطوعا في إحدى القرى النائية في دولة من دول أمريكا الجنوبية، توجد في هذه القرية (50) أسرة اعتنقت التشيع. كنت أزور شيخ القرية كل ليلة خميس لأقرأ لهم دعاء كميل. قال لي الشيخ إنه كان يذهب الى مؤتمرات تعقدها السفارة الإيرانية في بلد اخر للتعرف على الشيعة والتشيع في العالم، وأيضاً من أجل الحصول على بعض المساعدات والكتب. يوماً ما (يقول الشيخ المذكور) حضرت إحدى هذه الاجتماعات فرآني أحد مسؤولي السفارة الإيرانية وبيدي نسخة من الرسالة العملية للسيد السيستاني. يقول الشيخ: نهرني هذا المسؤول بشدة! وبعدها لم يدعني إلى المؤتمرات التي تقيمها السفارة ثم انقطعت عنا المساعدات أيضا!
(5)
النجف وداعش
حينما احتلت داعش ثلث العراق كانت الحكومة العراقية مولودا لحزب ولد بدوره في النجف، حكومة انتخبت حسب دستور باركته النجف. البلد نفسه (أكان يقوده شخص متعلم في النجف وجده عالم من علماء النجف ورئيسه مؤسس الحزب الذي ينتمي له القائد مرجع من مراجع النجف.. الحكومة نشأت على بركة النجف وبقيت تخضع لتعليمات النجف.. وكان تحت قوام ذلك القائد اكثر من 100 الف جندي ومعدات من طراز حديث. كلهم هزموا على يد عشرات من المسلحين، ثم يأتي النجف مرة اخرى ليتصدر الموقف ويفتي بالجهاد يهب اليه اخي وابن عمي وجاري وابني فيموتون كلهم، ثم انا علي ان اشعر بالامتنان لان شخص ما أفتى على امر ما لينقذ العراق من عدو ما والعراق يحكمه شيعي دعوي نجفوي صدري على راس جيش قوامه 100 الف. شكرا للفتوى إذن. شكرا للقتل المزمن، شكرا للفقر الدائم، شكرا للبؤس والهوان، شكرا للفشل.