لامني أحد أصدقائي الشعراء العراقيين، بأنني أعيد عليهم في مقالاتي عن الغناء العراقي ما يحبونه من أغان قديمة وهذا لا يكفي وأن كان يبعث على الحنين، ووصف بنوع من المغالاة وهو يُشبّه عودتي إلى تلك الأغاني بأنني كمن يعرض عليهم طبخات الأمهات المجمدة بعد تسخينها وإعادة تقديمها بلغة صحافية جميلة!
وكتب لي هذا الصديق الشاعر الذي لم أره منذ ثلاثين عاما متسائلا “كيف لا نحب ما طبخته الأمهات، لكنه لم يعد كافيا لأنه صار من الماضي، وإن قدمته لنا بلغة صحفية ونقدية ساخنة”!
حسنا، تساؤل الصديق الشاعر يمثل نصف المعنى الذي أهدف الوصول إليه في استعادة الأغنية العراقية، لأنني لا أعول على الحنين وحده في تلك الأغاني بقدر مواجهة سياسة الذاكرة المعدلة قسرا التي يراد لها وبذرائع سياسية وطائفية بغيضة تدمير الذاكرة الحقيقية والقبول بما أسميه “الأغنية المخطوفة.”
من المهم بالنسبة لي استشراف الغناء العراقي كفن عريق يراد سحقه اليوم عن عمد سياسي، فتحول من حاجة روحية تلامس مهجة الإنسان إلى ابتذال أدائي ومراث طائفية وصراخ، وخواء ثقافي وفني مثير للغرائز.
الحنين ليس وحده من يعيدني إلى الأغنية العراقية، فهناك أكثر من ذلك عندما يستحوذ الجهلة في علوم الغناء على ألحان عراقية خالدة وإعادة تقديمها بطريقة سياسية فجة، وما يسعدني في ذلك أن عددا غير قليل من الزملاء يقاومون هذا الاتجاه بما يكتبونه على منصاتهم الشخصية وفي برامج إذاعية تلقى صدى رائعا على مواقع التواصل.
سأقترح على صديقي الذي لا أشك بسمو ذائقته السمعية أن يجد لي معادلا لحنيا اليوم لما تركه مثلا الفنان الراحل ياسين الراوي في أغنية “حلوين” بصوت مائدة نزهت، وكيف صنع من قصيدة غازي ثجيل “ما أسماه صديقي الشاعر طبخ الأمهات البائت”! بما يجعل الذاكرة الروحية العراقية منتشيه منذ أن سجلت هذه الأغنية في ستينيات القرن الماضي.
بوسعي أن أقول إن هذه الأغنية تكاد تكون مثالا في الإجابة على تذمر صديقي، عندما نحلل قيمتها اللحنية والأدائية بوصفها أغنية لا تعود إلى الماضي وأن كان على بعد عقود. بل هي في لحنها وأدائها جزء من التعبير عن قيمة ما يجعل العراقي ولِهاً بالغناء بوصفه الحل الأمثل للتعبير عن نفسه وعن مجتمعه.
في أغنية “حلوين” لا تخرج الكلمة من حنجرة مائدة نزهت مكتفية بدلالتها اللغوية، بل أنها وفق وصف صديقي الناقد الراحل عادل الهاشمي، كلمة مترعة بالأنغام الموسيقية المعبرة. ذلك ما يجسده لحن الراوي وأداء مائدة نزهت.
هذه الأغنية تبدأ بصياغة لحنية لفرط تعبيريتها تجعل من مفردة “حلوين” تخرج من حنجرة مائدة نزهت وكأنها تحمل مذاق عسلها للمستمع “فالأذن تتذوق أيضا، عفوا أيها اللسان!”
بدأ لحن الراوي في “حلوين” بمقام الصبا ومر بالبيات وانتهى بالحجاز بروحية عراقية، ذلك في حقيقة الواقع الفني لحن محيّر لدرجة تجعلنا نبحث عن معادل لحني له اليوم.
بقي ياسين الراوي ملحنا معلقا بين الأجيال فهو لم يحسب على جيل الستينات وكان أكبر من جيل السبعينات بما تركه من ألحان باهرة في أصوات مطربي هذا الجيل خذ مثلا “لا يا قلبي” لأحلام وهبي قصيدة علي جلال و”درب الشوق” لفؤاد سالم التي كتبها علي العضب و “مسافرين” لياس خضر قصيدة غازي ثجيل. و”أشقر بشامة” للدكتور فاضل عواد التي كتبها حسن الخزاعي.
وصنع الراوي مرحلة مجددة في صوت رياض أحمد من بينها أغنية “أحبك ليش ما أدري” التي كتبها أسعد الغريري، ثم “لوهواكم” نص كريم خليل لصوت صلاح عبدالغفور.
تلك أغان يحبها العراقيون “ياصديقي الشاعر،” ليس فقط لأنها طبخت بأيدي الأمهات، بل لأنها تعبر عن عراقيتهم الضائعة اليوم!