صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

صراع الذاكرة في بناء العراق الحديث

“في كل أرضٍ حكاية، وفي كل حكايةٍ رواة، وما بين السطر والسطر تنام ذاكرةٌ أُجبِرت على الصمت، وأخرى نُفخت فيها روح السلطة، فمشت بين الناس كأنّها الحقيقة.”

في كل تجربةٍ سياسية مرّت على العراق كان التاريخ يُكتب بمنطق السلطة القائمة، لا بوصفه سرداً حيادياً يسعى إلى جمع الذاكرات وتدوين الوقائع، وهو ليس متفرداً بذلك ! 

لم تكن الكتب المدرسية ولا المراسيم الرسمية ولا حتى النُصُب والتماثيل، سوى أدواتٍ لإعادة توزيع الرموز واختراع ذاكرةٍ جديدةٍ على مقاس المرحلة. 

ومع كل انتقالٍ في الحكم تتبدّل الروايات وتُمحى أخرى، وكأنّ الوطن يحمل ذاكراتٍ مؤقتةً لا جذور لها. هنا تبرز معضلة “الذاكرة المرغَمة” تلك التي تُفرض من السلطة، وتُلقَّن في المناهج، وتُكرَّس في المناسبات الوطنية والإعلام، دون أن تعبّر عن نبض المجتمع أو عن تعدّد مكوّناته. 

إنّها ذاكرة تُنتَج لإدامة المشروعية لا لإحقاق الحقيقة ويتم من خلالها إقصاء ما لا يخدم الخطاب الرسمي، حتى وإن كان جزءاً أصيلاً.

ثورة العشرين، عند التأمّل في هذه الثورة نجد أنّها شكّلت نقطة اشتباكٍ سرديٍّ مبكرٍ في تاريخ العراق الحديث، فبين من رآها تعبيراً عن وحدةٍ وطنيةٍ ضد الاحتلال، ومن قدّمها على أنّها لحظة تحوّلٍ سياسيٍّ مهّدت لتأسيس الدولة، ومن قرأها لاحقاً كمقدمةٍ لثورةٍ اجتماعيةٍ أوسع، تنوّعت السرديات واختلفت النوايا. 

في ظل الحكم الملكي، جرى تصوير الثورة كخطوةٍ بطوليةٍ أسّست للشرعية السياسية للملك فيصل، ورسّخت السعي نحو الاستقلال والاعتراف الدولي. 

وفي العهد الجمهوري، تحوّل تأويل الحدث إلى مرآةٍ تُعكس فيها جذور الرفض الشعبي للنظام السابق، وجرى استدعاؤها ضمن خطاب التحرر من التبعية، وكأنّها كانت نواةً لثورة تموز لاحقاً. 

بين هذين الاستخدامين، تاهت كثير من الوقائع وغابت قراءة الثورة كحدثٍ إنسانيٍّ شاركت فيه شرائح متنوّعة من الشعب بأهدافٍ متفاوتة، لا يمكن حصرها في قالبٍ واحد. 

وبهذا المعنى، تحوّلت الثورة من واقعةٍ تاريخيةٍ إلى مادّة قابلةٍ للتطويع السياسي فاختلفت وظائفها باختلاف المرحلة وتغيّر مضمونها وفق مصالح الحُكّام والمستفيدين.

نشوء الدولة العراقية فتح الباب أمام سردياتٍ متوازية، تحاول كلّ واحدةٍ منها احتكار تمثيل العراق الحقيقي. هذا التعدّد لم يتحوّل إلى طيفٍ ثريٍّ يُغني الذاكرة إنّما صار سبباً لتفكّكها، إذ عمد كل نظامٍ إلى بناء ذاكرته الخاصة، وتثبيت رموزه، والتعامل مع ما قبله كقوسٍ ينبغي إغلاقه. سردية الحكم الملكي ركّزت على بناء الدولة والتوازن الإقليمي والانفتاح المدروس. 

بينما جسّدت سردية الجمهورية مفهوماً مختلفاً للوطن يقوم على المساواة الاجتماعية والتحدّي الإقليمي والتحرّر من الإرث الإستعماري. 

وبين هذين التصوّرين، وجد العراقي نفسه مشطوراً بين تمجيد مرحلةٍ وتكفير أخرى، دون أن تتاح له فرصة تأمّل التاريخ كنسيجٍ متّصلٍ يحمل ملامحه جميعاً.

النقاش العام حول أفضلية الملكية أو الجمهورية ما زال قائماً وغالباً ما يُستدعى في لحظات التوتّر السياسي أو الحنين الشعبي او ذكرى الثورة او حتى عيد العمال ! 

 يقدّم أنصار العهد الملكي تجربة الاستقرار والانفتاح والهيبة، ويقابلهم أنصار النظام الجمهوري بما حقّقه من استقلال القرار والسياسات التنموية والتحوّلات الاجتماعية. 

لكنّ هذا النقاش في جوهره لا ينبع من تقييمٍ موضوعي، بقدر ما يُستقى من ذاكراتٍ مجزّأة حُفرت كلّ واحدةٍ منها بأدوات الدعاية أو الصدمة أو الإلغاء. 

ان غياب الذاكرة الجامعة حال دون صياغة سرديةٍ عراقيةٍ تمثّل الجميع وتركت التاريخ ساحةً مشاعاً تستثمرها السلطات حيناً والخصوم حيناً آخر، في معركةٍ لا تتعلّق بالماضي إنّما بمشروعية الحاضر وموقع الفاعلين فيه.

في ظل هذا التشظّي، تتأثر الهوية الوطنية بحسب المراحل واهداف السلطات، حين تُبنى الهوية على روايةٍ واحدة، فإنّها تُقصي الآخرين وتحوّل الوطن إلى نصٍّ مغلق. أما حين تُبنى على الاعتراف بكلّ ما جرى وعلى تعدّد الأصوات، فإنّها تُصبح هويةً صلبة تتّسع للتناقض دون أن تتفكّك. 

صراع الذاكرات في العراق تحوّل إلى آليةٍ لإنتاج الانقسام وإدامة الشكّ و الانتماءات الهشّة، وتمهّد لبناء أجيالٍ لا تنتمي لما قبلها ولا تثق بما حولها، مما يقلل من اسهامها في تشكيل وعيٍ ناضج، وتآكل الثقة بالرواية الوطنية، وافتقار الجماعة إلى سرديةٍ مشتركةٍ تُؤسّس للانتماء والاعتراف المتبادل. 

وحين يُترك الماضي دون عدالةٍ سردية يصبح عبئاً متكرّراً يُستدعى كلّما احتاج الخطاب السياسي إلى تثبيت سلطته أو تبرير فشله.

لا سبيل لتجاوز هذا المأزق دون تفكيك المنظومة التي تُنتج الذاكرة الرسمية، ويُعاد سرد الماضي بوصفه إرثاً مشتركاً لكل العراقيين، عند ذلك تتكوّن ذاكرةٌ جامعة قادرة على احتواء التعدّد، وتنبثق عنها هويةٌ تنمو من المجتمع، عندها تكون ذاكرة صلبة وداعمة بشكلٍ اخر للسلطة بوصفها الوطني.

أقرأ أيضا