صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

ظاهرة المثلية ومقدمات موت الغرب

في كتابه الشهير (السياسة)، تحدث أرسطو عن الدولة وكيفية نشأتها، فذهب إلى أن النواة الأولى المكونة للدولة هي الأسرة، والتي تنشأ من اجتماع الرجل والمرأة، فهم لا يستطيعون البقاء منفردين، لأن الطبيعة تفرض عليهم الاجتماع بغية التناسل. وهكذا فالبيت هو أول ما ينشأ عن هذا الاجتماع، ومن اجتماع عدد من البيوت تنشأ القرية، ومن اجتماع جملة قرى تنشأ الدولة التي تنطوي على عناصر الاكتفاء الذاتي، وهو ما يجعل من الدولة حالة طبيعية.

تحليل أرسطو العقلاني لنشأة الدولة، ومنزلة الأسرة من هذه النشأة، بوصفها النواة الأولى المكونة للدولة، يبدو أن بعض دول الغرب اليوم، ما عاد يستعيده ويركن إليه، إلا في إطار عرض تاريخي للدراسات التي تناولت أسباب نشأة الدولة وماهية الأسرة وموقعها من هذه النشأة. نقول ذلك، وفي ذهننا ما يحصل منذ زمن في الغرب، حيث ظاهرة المثلية تلقي بظلالها على بلدان ومجتمعات عدة، ومعها يتعرض مفهوم الأسرة إلى إعادة تعريف تنسف المفهوم من جذوره، لا سيما وإن الأسرة هي آخر معاقل المجتمع في وجه الأيديولوجيا الرأسمالية والنزعة الفردية، التي زعزعت مفهوم الجماعة والأسرة ذاته، وأخرجت الأفراد من دائرة سلطة الأب والأم إلى سلطة النظام الرأسمالي ومتطلباته الاستهلاكية.

ففي السنوات الأخيرة ذهبت بعض البلدان الغربية صوب مرحلة شديدة الخطورة في التعاطي مع ظاهرة الشذوذ. وهي مرحلة انتقلت فيها من تشريع القوانين التي تجيز هذه الظاهرة  وتكرسها في المجتمع، إلى الترويج والدفاع المحموم عنها، لدرجة معادة كل من يعترض أو يمارس النقد تحت مسمى نشر الكراهية والتمييز. وهو أمر يُذكّرنا بقوانين معادة السامية في الغرب، والتي تحاسب كل من يتعرض لليهود بالكراهية والعداء، أو يشكك برواياتهم وتاريخهم بوصفهم جماعة تعرضت للظلم والاضطهاد. ويبدو أن قوانين معادة المثلية ستحظى بمنزلة واهتمام في الغرب لا تقل منزلة عن قوانين معادة السامية !!!    

ويتجلى ذلك في محاولات فرض المناهج التي تثقف للشذوذ في المدارس، أو إلغاء الضمائر التي تشير للأفراد وتميز الذكور عن الإناث، لكي يفسح المجال للفرد لاحقاً بتحديد الجنس الذي يرغب أن يكون عليه، وقبل كل ذلك السماح بتغيير جنس الفرد، ومن هنا ظهر مصطلح المتحولين جنسياً.

ويلاحظ أن الشاذ المطالب بالاعتراف باختلافه وضمان حقوقه ما أن يحصل عليها، حتى يدعوا إلى جعل الآخرين مثله وعلى شاكلته. فهو لا يكتفي بما أكتسبه، وإنما يهاجم المختلف عنه، هذا الذي يرى فيه كل ما يذكره بانحرافه وشذوذه. لهذا يبدأ، بعد أن حظي بما أراد، بالحراك صوب السليم والسوي، والعمل على جذبه لسلوكه وقناعاته.

ولهذا، فإن أمراض هؤلاء لا تبقى في دائرتهم وحدود فئتهم، فهي سرعان ما تنتشر لتصيب الآخرين، وذلك عبر الضغط لتشريع القوانين، وعبر الدعاية والإقناع، وتوظيف كل ما من شأنه حفظ كيانهم وحرية سلوكهم، تدعمهم في ذلك مؤسسات، وشخصيات، وأحزاب، لها هيمنة ونفوذ. لذلك كان تقبل هكذا ظواهر تتعارض مع المعتقدات والفطرة البشرية، والترويج لها بوصفها جزءاً من حرية التعبير والاعتراف بالآخر من الخطورة بمكان. لأن من جملة ما يعنيه ذلك هو فسح المجال للأفراد بتقبل الشذوذ والانحراف، وتسويغه لهم على أنه شيء طبيعي لا مشكل فيه، وإن حق من حقوقهم اختيار ما يريدون وفعل ما يشاؤون.

وإذا كان الدين يشكل حاجز منيع أمام هكذا ظواهر، فإن هدمه في النفوس من أسباب قبولها وانتشارها، لا سيما وأن الحضارة الحديثة قد أطاحت بالكثير من القيم الأخلاقية والدينية. ذلك أن تقويض الايمان بالله يترتب عليه آثار خطيرة في حياة الإنسان. وما تشريع القوانين التي تحمي هذه الظواهر، وتعدها قضايا تدخل ضمن حريات الأفراد وحقوقهم، سوى بعض من مظاهر رفع فكرة الله من قاموس الإنسان وحياته. فالدين وتشريعاته حول الأسرة ودور الرجل والمرأة في الحياة، ما عاد له ذلك التأثير والحضور في حياة المجتمعات الغربية، وخاصة في أوروبا الغربية، وأمريكا، وكندا. فقد أصبحت مؤسساته أداه طيعة للسلطة ومصالحها، وللقوى المهيمنة والفاعلة في المجتمع، ولضغط وسائل الإعلام التي تحكم الرأي العام اليوم. وما مباركة بابا الفاتيكان الأخيرة لزواج المثليين إلا دليل على ذلك، على اضمحلال دور الدين، بل وتحويله إلى أداة تشرع الشذوذ وتباركه، بعد أن حضي بالقبول قانونيا،ً بوصفه ظاهرة يجب الاستجابة لها وتحقيق رغبات أفرادها. 

وهكذا، فعندما يخرج الأمر من دائرة الدين، ومنطق العقل، والأعراف، والقيم الأخلاقية، بفعل عامليّ الحرية والحقوق المبالغ فيهما، فإن النتائج ستأتي ممتثلة لرغبات ومصالح الأفراد والجماعات والمؤسسات. ومن ثم لا يعود هناك معيار موضوعي يمكن الاحتكام إليه، معيار يحدد الجائز من غيره، والحلال من الحرام، والصح من الخطأ، فالأمر هنا متروك للأهواء والأمزجة والمصالح، فما تراه أنت صحيح فهو صحيح بالنسبة لك، وما أراه أنا خاطئ فهو خاطئ بالنسبة لي، وهكذا تتعدد الحقائق، فلا يعود هناك ثمة حقيقة موضوعية لشيء ما. وذلك هو جوهر ومضمون الفكر السفسطائي على صعيد المعرفة، والذي يستعاد لتبرير الشذوذ والتحول الجنسي تحت مسمى حرية الأفراد وحقهم في ما يعتقدون ويفعلون.

واهِم ومُغفّل من يعتقد أن خطر ظاهرة المثلية أمر يتعلق بالغرب وحسب. إن الغرب كيان يملك من القدرة ما يدهش على نقل أمراضه وآفاته إلى غيره، وجعل ذلك الغير مقلداً له، أو على شاكلته اقتصاداً وسياسة وثقافة، وإلى حد ما تقنية. خاصة وإن العولمة (وهو صانعها وسيدها ولا سيما الولايات المتحدة الأمريكية) قد كسرت منذ عقود كل الحواجز والأسوار، وقربت شعوب العالم من بعضها، ومن يمتلك أدواتها يمتلك القدرة على التأثير في غيره. وهذا ما فعله الغرب منذ زمن بعيد، منذ الاستعمار الذي أراد للآخرين هوية كهويته، ولكن في إطار ما يجعله تابعاً، مستهلكاً، يدور في فلك سياسته واقتصاده وثقافته، لا حراً مستقلاً. وقد تحقق له ذلك في كثير من البلدان. وحتى البلدان التي تحررت منه سياسياً، لا زال الكثير منها يدور في فلكه اقتصادياً وثقافياً، وبالتالي لم تتخلص من كل آثاره.

وإذا كان الأمر كذلك، فما الذي يمنع الغرب اليوم من تصدير قيمه الجديدة إلى غيره تحت مظلة الحريات والحقوق ؟ وهو المعروف في سيطرته على كل المنظمات الدولية الفاعلة في العالم والمؤثرة في قوانينه واقتصاده وسياسته وأمنه. ربما لا ينطبق ذلك على الدول القوية الفاعلة صاحبة السيادة، لكن دولاً أخرى حال دول العالم العربي والإسلامي، فالأمر معها مختلف تماماً. ذلك أن العالم العربي، وباتفاق الكثير من الباحثين، بدأ تاريخه الحديث، المعروف بعصر النهضة، نتيجة الاحتكاك بالغرب، الغرب الذي جاء إلينا نهايات القرن الثامن عشر ومعه كل ما يمكّنه من الهيمنة والسيطرة، معه أسباب القوة والحضارة من علوم ومعارف شتى. والمهم أن هذا التاريخ (كما يقول أحد النقاد العرب) هو عبارة عن حلقات من ردود فعل متتالية على التحدي الغربي، وإنه على الصعيد السياسي والاقتصادي والعسكري، سنجد أن تاريخنا الحديث بكل سلبياته وايجابياته هو من صنع الغرب بصورة مباشرة أو غير مباشرة. ويزكي هذا الرأي ويؤكده حول تاريخنا هذا المقال، وغيره كثير من مواقف فكرية ناقدة، وتظاهرات شعبية رافضة، تدخل في نطاق رد الفعل على أحدث قيم الغرب وصيحاته.  

في النهاية لا شيء يمنع من عولمة الشذوذ والتحول الجنسي، أي تعميمه وجعله عالمي التداول والانتشار، فما يبدو محرماً ومرفوضاً اليوم، سيغدو مقبولاً ومتداولاً غداً. فقط أرادتنا، ويقظة مجتمعنا، واستقلال قرارنا السياسي والاقتصادي، وضبط عالم الميديا بعيداً عن المحتوى المبتذل وغير الأخلاقي، هو من يكفل دفع خطر آفة القرن الواحد والعشرين، آفة إفناء البشر وهدم الأسرة التي تقوم على رابط بين رجل وامرأة، ذلك الرابط الذي قال عنه أحد قادة الغرب في العصر الحديث: (أجمل سنن الحياة الاجتماعية الزواج).

أقرأ أيضا