صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

عطايا قليلة تدفع بلايا كثيرة دون أعماركم..!

عطايا قليلة تدفع بلايا كثيرة دون أعماركم” نداء صاغه عراقي فقير نادته معدته جوعاً. فحمل سلة من الخوص “الزنبيل” ووضع داخلها أناء ًمن “الفافون” الفضي اللون، مسود القاعدة من دخان الحطب، وصار يتوقف عند أبواب بيوت فقراء مثله، أقل فقراً وأكثر وفراً، دون أن يطرق الأبواب، فقط أن يسمعهم صوته بعد العشاء، مردداً نغما عنوانه “عطايا قليلة تدفع بلايا كثيرة دون أعماركم” يخرج الأولاد حاملين ما تبقى من “التمن” وعليها وفوقها بقايا عظام ويدلقونها في أناء الفافون الفضي اللون، حتى إذا أمتلأ الإناء ببقايا الرز وأطراف الخبز وبقية من عظام، أكتفى الشحاذ الذي يسمه العراقيون “السائل”، وعاد لأهله على أطراف مقبرة الموتى، مرتجف الأحشاء من برد مندّى بالرطوبة ، ليدخل في كوخ أو غرفة من الطين المداف بالتبن يسمى مجازاً بالبيت، يوطئ رأسه عند الباب ويدخل بسلة الخير، وفيها اناء الطعام وبقايا من خبز الناس وفضلات عشائهم.. يأكل الأهل والأولاد، ويشكرون الله على نعمه!.

وسرعان ما انتشر اللحن الحزين الدامي بين فقراء المدينة وصرنا نسمع النغم من القريب والبعيد والأكثر بعداً في أول الليل بعد العشاء “عطايا قليلة تدفع بلايا كثيرة دون أعماركم”. يدوي الكورال دون عزف للموسيقى بكلمات قليلة وبليغة موسيقاها صمت الليل، لتشكل فاجعة الفقر في وطن يطفو فوق النفط والكبريت والزئبق الأحمر. وفقراء المدينة كورالا منغما من القريب والبعيد “عطايا قليلة تدفع بلايا كثيرة دون أعماركم!”

الحياة فيزياء.. ليس لها خالق. فراغ من جزيئات مادية لا مرئية انفجرت ذات لحظة قبل مليارات السنين وكونت دحية مكورة، ثلثاها ماء والثلث الآخر يابسة ونشأت الحياة في الماء.

ومن الماء صارت الحياة. وصار الآدميون من بقايا أسماك، وخرجوا لليابسة وصاروا ناسا، وبقي الناس قرونا وأزمانا، دونما مصلحين من أنبياء جاءوا متأخرين كثيرا عن ولادة الحياة، يبشرون بخالق جبار.

ولأن الحياة فيزياء واعية فهي التي تنظم نفسها أو تربكها متى شاءت. وتقرر متى يولد الناس ومتى يموتون. بعيداً عن ادعاء المبشرين في حياة ثانية ملآى بالخرافات يطوف على الميتين فيها، ولدان مخلدون إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا.

انقسمت دحية الأرض إلى مناطق سكنية وصارت لها حدود ولها أسماء بعضها ينتمي للتاريخ وبعضها ينتمي للجغرافيا، فصارت الصين وكوريا وأقوام صفراء، وصارت بلدان ذات أقوام شقراء وبعيون زرقاء، سميت بأسمائها مثل أمريكا واوروبا، وتقاسمت الأرض على حساب شعوب طيبة أصيلة من أمثال الهنود الحمر، وتشكلت عصابات على شكل مدن وحكومات.. وجاء العراق الحديث في منطقة تسمى الشرق الأوسط، ناسه سمر السحنات وعيونهم سود أو عسلية وله من مواقعه وأهواره تاريخ حافل بالمجد، وصادف أن سرت في أحشاء أرضه المعادن سائلة، وصار موقع حسد من قبل الجبابرة والقتلة العالميين، والتاريخ حافل بالأقوياء مثلما هو حافل بالضعفاء. وحكم هذا العراق نفر من منطقة الحجاز وأطلق على العراق الحديث المملكة العراقية، منذ العام 1921 ثم الجمهورية العراقية الخالدة في العام 1958، وبعدها جمهورية العراق في العام المشؤوم 1968.

منذ التأسيس الأول، لم ينصف حكام العراق أهله. وجعلوهم شحاذين يتكاثرون وهم يرددون منذ تأسيس العراق وحتى يومنا هذا، لحن الفاجعة “عطايا قليلة تدفع بلايا كثيرة دون أعماركم” والبلايا تصيب الفرد حين لا ينصف ويستهتر وحين يتكبر ويتجبر، والأمثلة لا تحصى ولا تعد، وكثيراً ما أصابت فيزياء الحياة أولئك الجبارين إصابات بالغة مخيفة، وسرت البلايا على أهليهم وذويهم!

الخوف كل الخوف حين البلايا تصيب الوطن برمته وليس بأفراده المتكبرين. ففساد الأخلاق اجتماعياً بلاء من البلايا الكثيرة، مثله مثل فساد المال، وهو بلاء من البلايا الكثيرة، مثله مثل البغاء والدعارة والشذوذ وهو بلاء من البلايا الكثيرة، مثله مثل اليتم وهو بلاء من البلايا الكثيرة، مثله مثل الموت المريض وهو بلاء من البلايا الكثيرة، مثله مثل الموت قبل استحقاقه، وهو بلاء من البلايا الكثيرة، مثله مثل الخوف وهو بلاء من البلايا الكثيرة، مثله مثل سرطان أوبئة الحروب في أرحام الصبايا، وهو بلاء من البلايا الكثيرة، مثله مثل صبية وصبايا في أعمار الورود يبيعون الماء على السابلة والناقلة عند تقاطع الطرقات، وهو بلاء من البلايا الكثيرة، مثله مثل أمراض لا تعرف أنواعها وأسماءها وهي بلاء من البلايا الكثيرة، مثله مثل حيوانات غريبة ليست من سنة الحياة، تولد وتنمو بأشكال مرعبة مثل جرذان بأحجام الكلاب، تتجول بين البساتين وهو بلاء من البلايا الكثيرة، مثله مثل وطن تتجذر فيه الطوائف والأعراق والأديان دون الإنسان بإنسانيته، وهو بلاء من البلايا الكثيرة، مثله مثل الخرافات التي يعتقد بأنها حقائق وهو بلاء من البلايا الكثيرة، مثله مثل حيوانات بشرية ترتدي الأطقم والياقات البيضاء وأربطة العنق الحريرية ولا يعرفون أو يقرأون، ويكتبون بلغة عربية خاطئة لكتاب يعتقدون به مرجعا دون أن يجيدوا لغته، وهو بلاء من البلايا الكثيرة، مثله مثل مدارس مهدمة يدلق المطر والطين من سقوفها، وهو بلاء من البلايا الكثيرة، مثله مثل سجون مرعبة يزدحم في داخلها البريء بالسقيم وهو بلاء من البلايا الكثيرة، مثله مثل مستشفيات تشب فيها الحرائق المفتعلة، ويرمي المرضى بذواتهم من أعالي الشرفات وشبابيك غرف المرضى، وهو بلاء من البلايا الكثيرة، مثله مثل جفاف الأنهار والأهوار وهو بلاء من البلايا الكثيرة، مثله مثل ما تسود الأملاح سطح الأرض العراقية وجوفه وهو بلاء من البلايا الكثيرة، مثله مثل ملايين النخيل مقطوعة الأعناق على ضفاف الفراتين والشاطئ، وهو بلاء من البلايا الكثيرة، مثله مثل بيوت الأشباح وقصور النهايات التي تحول الإنسان إلى مسخ، وهو بلاء من البلايا الكثيرة، مثله مثل القمح المستورد المسموم، وهو بلاء من البلايا الكثيرة، مثله مثل بلد يستهلك ولا ينتج، وهو بلاء من البلايا الكثيرة، مثله مثل سيادة المخدرات والكبسلة في المدارس والجامعات، وهو بلاء من البلايا الكثيرة، مثله مثل المطارات لتصبح بوابات للتهريب، وهو بلاء من البلايا الكثيرة، مثله مثل كتل من عباءات سوداء تحجب الأفق عند باب ديوان التقاعد وهو بلاء من البلايا الكثيرة، مثله مثل الفوارق في مستوى الرواتب وهو بلاء من البلايا الكثيرة. مثله مثل الثقافة العراقية المغدورة حين يتجمع حولها جهال القوم ويعبثون بها، وهو بلاء من البلايا الكثيرة، مثله مثل وسائل الإعلام التي تبني الصحون الفضائية وأجهزة الاستقبال والبث قرب أجهزة الأمن والمخابرات لاستقبال أسرار المؤسسات، وهو بلاء من البلايا الكثيرة، مثلها مثل الكهرباء المظلمة والتي تسود ظلمتها بيوت العراق وشوارعه، وليس إضاءة لدفء الحياة وإنارتها، وسعادة الإنسان العراقي بالنور!!.

لكن فيزياء الحياة ماثلة وعلمية ولها حساباتها في يوم ما، وهي التي أوحت لسائل فقير أن يصرخ يوماً في ليل بارد “عطايا قليلة تدفع بلايا كثيرة دون أعماركم”…! وهو نداء تحريض على انتفاضة ونداء استغاثة ونداء فقر وفاقة. ستنتقم فيزياء الحياة من كل هؤلاء وأولئك انتقاما مرعبا ودونما استثناء، وتحرّك منخل الحياة الخرافي فينزل من مساماته غبار الحياة ويبقى القمح نظيفا لأهل العراق حتى لا يرددوا في حياتهم مرة ثانية في التاريخ نغم الفاجعة “عطايا قليلة تدفع بلايا كثيرة دون اعماركم”!!؟

أقرأ أيضا