هذا الفيلم يعيد لنا ما أسميته في يوم ما “شفاعة وجد” أو ما أطلق عليه الراحل جبرا إبراهيم جبرا “فشة غل” عندما سألته في تحقيق منشور قبل أكثر من ثلاثة عقود عن دلالة الرسالة المكتوبة بالنسبة إليه.
فأنا من جيل عاش قيمة أن يعبر عن نفسه في رسائل مكتوبة يتذوق طعمها في جبهات القتال وفي البلدان البعيدة.
وأجزم أن أبناء ذلك الجيل ومن قبله سيذرفون الدمع حتما عند مشاهدة فيلم “الكتيبة 6888″، يستعيدون فيه زمن الترقب بشغف ولوعة رسائل من يحبون في عالم لم يكن بعد قد تحول إلى قرية صغيرة!
لا يعيد هذا الفيلم، الذي أنتجته “نيتفلكس” وبدأ عرضه منذ أسابيع، القيمة التاريخية للرسالة المكتوبة -ومن قال إنها فُقدت؟- وإنما يفتح نافذة حنين على الدمع والعطر والزهر وسحر الكلمات الكامن في تلك الرسائل حتى وإن كتبت من جبهات حرب مثقلة بالموت والدماء.
الحرب العالمية الثانية لم تنته بعد وإن مر عليها ما يقرب من قرن كامل، لأنها كانت مدونة في رسائل الجنود، هكذا يتناول المخرج تايلر بيري قيمة الرسائل المكتوبة في حرب حصدت ملايين الأرواح، لكنه يجد في العنصرية السائدة داخل الجيش الأميركي حيال السود سببا كي يفتح هذا الصندوق ليرينا كيف يعيش الأسود في الولايات المتحدة حياة مجحفة يملأها الازدراء والاحتقار حتى وإن كان جنديا في جيش بلاده.
يروي الفيلم القصة الحقيقية الملهمة للنساء الشجاعات اللواتي تم إرسالهن إلى الخارج أثناء الحرب العالمية الثانية. لقد كن الكتيبة الوحيدة المشكلة من نساء سوداوات في الجيش الأميركي يعملن تحت معاناة قاسية من العنصرية وكراهية النساء بعد نشرها في مدينة برمنغهام البريطانية.
يتم اختيار كتيبة 6888 المشكلة من النساء السوداوات حصرا في مهمة فرز الملايين من رسائل الجنود من جبهات الحرب، لم يعر قائد الجيش الأميركي أهمية لفرزها وإيصالها إلى أسر الجنود بذريعة أن هناك مهام أكثر أهمية للجيش من تبادل المشاعر مع أسرهم!
أسهمت هذه الكتيبة السوداء في فرز 17 مليون رسالة لم يتم تسليمها على مدار ثلاث سنوات بعد أن وضعت في اختبار عنصري لمجرد أن أفرادها من النساء السوداوات. بيد أن قائدة الكتيبة الرائد تشاريتي آدامز (تمثل دورها كيري واشنطن) كانت تجد الثقة في جندياتها من البنات مع أنها تؤمن في قرارة نفسها بأن الكثير من الرجال البيض داخل الجيش لا يريدون لها النجاح بدوافع عنصرية، ولكن كما هو مثبت في ملصق الفيلم “علينا أن نثبت أننا قادرون على تحقيق الكثير.”
وهذا ما فعلته نساء الكتيبة بالضبط. فبعد أن مُنِحن مهلة ستة أشهر لإكمال المهمة، أنجزت المهمة في أقل من تسعين يوما بعد شهور من فرز الرسائل في مستودعات بنوافذ معتمة، باردة وقذرة ومليئة بالقوارض، فرفعت الروح المعنوية للجنود وأسرهم بمجرد وصول الرسائل إلى وجهتها، عندما كانت الولايات المتحدة في أمس الحاجة إليها.
قيمة هذا الفيلم تبدو مزدوجة لمن يشعر بالحنين إلى الرسائل المكتوبة، وتبدأ من كشف العمق الآسن للعنصرية ضد النساء السوداوات داخل الجيش الأميركي والمجتمع برمته، ومن ثم تعيد إلينا الجوهر العميق للرسالة عندما كانت تكتبها أقلام مرتعشة تحت وطأة الخوف أو متلهفة لإيصال مشاعر العشق وربما الوداع عندما يقترب الموت، ثم ترقب وصول الرسالة.
في النهاية هو فيلم إنساني لا يتعلق بالعنصرية حيال السود وحدها ولا كيف تتم كراهية النساء داخل المجتمع الأميركي، بل عندما يقوم المرء بمهمة إيصال خبر أو أمل للأمهات، فإن أولادهن ما زالوا هناك على خط النار وعلى قيد الحياة.