صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

عندما يحاط السياب بسورٍ من حديد

كل بلد في العالم له تراثه وحضارته ونُصُبهُ التذكارية وتماثيله التي يحافظ عليها ويعدّها رموزاً حضارية. والعراق له من النُصب التذكارية التي ميّزته عن غيره لما له من تاريخ عريق سواء في الثقافة والفنون أو في حروبه وجهاده ضد الغزاة الذين راودهم حلم احتلال العراق على مر التاريخ، ورموزه القيادية وغيرها.

ولذلك فإن  لكل مدينة في العراق رموزاً خاصة عُرفت بها، فعندما تذكر الحبوبي ينتقل خيالك إلى مدينة الناصرية، أما عندما تذكر المتنبي ينتقل خيالك فوراً إلى بغداد وشارعها الثقافي ونصب هذا العملاق.. وإلى ما لا نهاية من الرموز التاريخية والنصب التذكارية لعظماء العراق وفنانيه وأدبائه وقادته.

وفي البصرة ركّز الإعلام دائماً وأبداً على تمثال الشاعر بدر شاكر السياب كرمز لهذه المدينة العامرة بالفن والأدب والتراث. وقد احترم الشعب البصري هذا الرمز (التمثال) للمدينة ولم يحاول يوماً المساس به فقد وضعت بجانبه على طول الكورنيش تماثيل أخرى تعرضت أكثر من مرة للهدم ونهب المعدن الذي تحمله، ولكن لم يتجرأ أحد على المساس بهذا الرمز البصري القديم ِقدم الحداثة العراقية.

لكن ما أثار حفيظتي هو رؤية الأسوار الحديدية المصبوغة والمزركشة حول نصب تمثال السياب على ساحل شط العرب في البصرة والذي جاء بعد عمليات الترميم التي قامت بها كوادر إحدى كوادر إحدى الشركات بأمر من أحد الوزراء (لا أذكر اسمه لأنه لم يرمم على حسابه الشخصي).

فقد شهد هذا النصب العديد من عمليات الترميم خلال الفترة بين 2003- 2018. لكن ربما كانت هذه الأكبر كونها لم تشمل التمثال فحسب وإنما شملت الساحل والرصيف والمنطقة المحيطة حيث تم إزالة الكثير من أغصان الأشجار والأكشاك والتجاوزات على المكان.

لكن وجود السور الحديدي حول النَصْب دلّ على الكثير، فالشعب لم يعد يحترم تراثه وحضارته وأملاكه العامة ويسعى دائماً إلى إهمالها وإتلافها وعدم المبالاة بها.

وقد شهد تمثال السياب الكثير من التجاوزات كونه أحيط بعدد من الأكشاك لبيع الأكلات السريعة والأراكيل والتي تجاوز أصحابها ووضعوا الكراسي والطاولات حول النَصْب. فضلاً عن رمي القمامة بالقرب من النَصْب أو خلفه، خصوصاً في فترة تلكؤ الشركة الكويتية في إزالة النفايات.

وشهد النَصْب الكثير من تجاوزات الشباب كترك بقايا الأطعمة والمشروبات على النَصْب أو الصعود على التمثال أو بالقرب منه. وقد شاهدتُ مرة عدداً من الشباب يريدون التقاط صور مع تمثال فقام أحدهم بالصعود فوق اليد اليمنى للتمثال معانقاً الرأس حتى بدا للناظر أن السياب يحمل طفلاً.

كما تسلّق شاب يد السياب – التمثال – اليمنى ووقف فوقها وأمسك بأذن السياب صارخاً أمام الناس محدثاً السياب في مشهدٍ تمثيلي ساخر “ليش اتكول الشمس أجمل في بلادي؟.. بعد لا تعيدها”.

إن وضع الأسوار الحديد حول تمثال السياب يثير الكثير من المخاوف فقد يتحول المكان إلى مكب للنفايات إن لم يخصص له عامل نظافة، فضلاً عن أن المسافة أصبحت كبيرة وأن السور حجز معظم الرصيف ولم يبق َ إلا القليل لعبور المارّة كون أن هذا المكان يشهد تجمعات كبيرة للشباب في المناسبات والأعياد.

إن الاهتمام بالنُصب التذكارية في البصرة خرج عن إطاره المألوف كونه جزء من عمل بلدية البصرة، وأصبح يُتعامل مع الملف بأشبه ما يكون بالـ(مكرمة) أو العطية والهبة التي يهبها المسؤول فلان أو السياسي علاّن . لذلك عانت الكثير من الإهمال فضلاً عن تعرض بعضها للتهديم والإزالة وإقامة نُصُباً أخرى تبعاً لأحزاب.

البصرة بحاجة إلى أن تعاد لها هيبتها كمدينة عرفت بالثقافة والفن والحداثة، وذلك من خلال العمل الجاد على تنظيفها وإزالة آثار الدمار والتهديم الذي تعرضت له الكثير من الأبنية، وكذلك إزالة التجاوزات عن الأرصفة والأراضي الحكومية التي تم تسجيلها كأماكن ترفيهية وحدائق عامة، وإعادة التشجير (الجاد) والاهتمام بالأنهر وتنظيفها وكريها، وكذلك الاهتمام بالنصب والساحات العامة.. كما لا بد لنا من الإشارة إلى ضرورة إعادة ملف نظافة البصرة إلى بلدية البصرة بدلاً من صرف المليارات لإعطاء المهمة إلى شركة تنظيف ولمدد محددة.

أقرأ أيضا