ببساطة شديدة، إن التحدي الأكبر الذي يواجه عملية التغيير الاجتماعي هو مقاومة التغيير، مهما كان هذا الأخير مؤلماً، فالمهم أنه يحافظ على قدسية معبد الذاكرة من المساس بها أو محاولة عبور بعض مطبّاتها. نفهم جيداً أن التوجهات اليمينية تستند على دعائم متينة وصلبة لمقاومة التغيير، حفاظاً على التقاليد الاجتماعية، فمن هنا تُبدي مقاومتها تجاه التغيير، وتحارب أي عملية ممكنة لقلب الواقع، فالآليات الدفاعية المتوفرة لمقاومة التغيير تتفوّق بأضعاف على آليات قلب الواقع؛ فالأول له جيوش جرّارة، والثاني لا يجود لنا إلا بأفراد يحملون مشعل التغيير الحقيقيّ. وعلى كل حال، فضمن هذا السياق يبدو معلوماً وواضحاً العقل اليميني في رفضه للتغيير، خصوصا أنه يملك البدائل التي يراها ميراث اجتماعي لا يمكن قلعه من جذوره، بقدر ما تجري عليه عملية إصلاح تدريجية. كل هذا يجري في سياق الأخذ والرد فيما يتعلق بالقبول بالحلول الجذرية أو الإصلاحات التدريجية. إن هذا الجدل يكتسب مشروعيته إلى حد معقول ضمن السياق الغربي الذي يرتكز على بدائل هائلة، وقد نجد عذراً من هذه الناحية فيما يتعلق بالإصلاح، ذلك إن هذا الأخير يكتسب حيوية من خلال وجود مؤسسات فاعلة وبنى تحتية ضخمة لا تحتاج إلى قلب الواقع!، بقدر ما تريد إصلاحه . وبصرف النظر عن إيّهما أحق بالإتباع، فإن همومنا لا تنطلق من هناك،أعني المجتمعات الأوربية، وإنما من هذه البقعة المعذبة التي تحاول تفعيل عملية الإصلاح وسط هذا الخراب!.
ما الذي يمكن إصلاحه يا ترى في هذه “العملية السياسية”؟: الدستور؟ المحاصصة الطائفية؟ قانون الانتخابات؟ تقسيم البلد إلى ثلاث دويلات؟ غياب قانون المواطنة؟ أم غياب الدولة؟!! . معلوم إن الإصلاح يبدأ من تراكم الخبرات، وينطلق من أساس موجود، وفي محنتنا لا يوجد سوى الخراب، فكيف فهمنا الإصلاح؟!. ليس معيباً أو رومانسياً إن تكلمنا عن الحلول الجذرية ، فالخيارات ليست ترفاً في نهاية المطاف، ولا تخضع للمزاجات الشخصية، وإنما منطق الواقع من يحدد ذلك، والواقع يخبرنا أن هناك غدة سرطانية لا تنفع معها الحقن المهدئة، ولا تنفع معها استنساخ التجارب وتجريدها من مضامينها؛ الإصلاح يعني أن هناك مقدمات متوافرة يمكن الانطلاق منها، بمعنى آخر، يتخذ الإصلاح مشروعيته فيما لو كانت هناك دولة مؤسسات فاعلة وحقيقية، وقيم ديمقراطية متأصّلة، ونقابات وأحزاب عريقة. أمّا الحلول الجذرية: كتابة دستور جديد يتخذ من الوحدة الوطنية ومن المواطنة والديمقراطية الجذر الأساس، والمنطلق التي تبدأ به العملية التاريخية، فكل ما حدث بعد سقوط البعث لا يعتبر عملية تاريخية!، ذلك إن العملية التاريخية تعني التحوّل من حقبة إلى أخرى، وما نراه هو العكس تماماً، إذ لا زالت نفس البنية الاجتماعية والسياسية التي أنجبت البعث هي ذاتها من تحرّك العملية السياسية بأقنعة مختلفة، وشاهدنا ذلك الدستور الذي يشرعن تمزيق الوطن وتحويله إلى شتات، ويشجع على الاقتتال الطائفي، بمعنى أنه لم يُحدث أي تغيير لواقعنا الاجتماعي والسياسي، وإنما أمضى وصدّق على الماضي بكل عيوبه وتحدياته، فمن هنا ظلّت سكونية التاريخ كما هي عليه، فما تحرّك هي الأشكال التعبيرية فقط، دون أن يطال البنى الاجتماعية أي تغيير يذكر. على العكس من ذلك، فقد زادت حمّى الهويات الفرعية التي تسيّدت المشهد السياسي برمّته، ولم يعد أي احترام لمفهوم الدولة، فظلاً عن عدم التفكير في هذا المشروع الضخم. إنّ بناء مؤسسات فاعلة وحقيقية تظهر لنا ملامح دولة ديمقراطية لا دولة المذاهب والقبائل، هو الحلّ الجذري والخطوة الأولى لدخول التحوّل التاريخي، والمضيّ نحو التغيير الحقيقي، وماعداه تضخيم للسلطة على حساب الدولة. لم تظهر على الساحة السياسية أحزاب تؤمن بالعمل الديمقراطي وتمارسه فيما بينها، وقد ظلّت الخضراء مرتعاً للسرّاق والأميين في الوقت الذي ننادي فيه بالإصلاح! . مؤكّد إن هذه العمليّة الجذرية الشاقّة لا توجد بآليات سحرية، بقدر ما يحتاج لعدة عقود لإغنائها، فالترقيع لا ينتج إلّا ترقيعاً مماثل، فالإصلاح في مثل هذا الوضع المزري ليس سوى مهزلة كبرى وضحك على الذقون يراد منه إلهاء الرأي العام عن المشكلة الجوهرية بمزيد من خلق الأزمات.
لكن.. هذا الأمر الجسيم ألا يحتاج إلى نخب فاعلة ومجتمع يمتلك الإرادة نحو التغيير؟!. ماهي الكوابح التي تمنع هذه الإرادة لتحررها من سباتها العميق؟. ترى ماهي الشروط التي أوجدها الفرنسيون، ماهي الشروط التي أوجدها لينين، ماهي الشروط التي أوجدها ماوتسي تونغ؟ بتعبير آخر، ماهي العلاقة التضامنية التي أوجدها هؤلاء الثوّار بين مجتمعاتهم، وكيف تحدث هذه الوثبات العظمى؟!.