عاد مصطفى الكاظمي، رئيس الوزراء العراقي السابق، إلى بغداد بعد أشهر من غيابٍ طالَ الحديث عن أسبابه ودلالاته، لكن عودته هذه المرة لم تكن مجرد حدثٍ عابر، بل حملت معها رياحاً من الأوهام لأطراف سياسية مدنية ونواب برلمان، يعيشون حالة موتٍ سريري في المشهد السياسي، بعد أن فشلوا في تمثيل من ادعوا أنهم صوتهم. إنها عودة تذكّر العراقيين بإرث الكاظمي المثقل بقمع الاحتجاجات وشراء الذمم، وتكشف أيضاً عن استغلال بعض “المدنيين” لفرصةٍ يائسة لإعادة تلميع صورهم المنهكة.
الكاظمي وإرث تشرين: قمعٌ وصفقات مالية
لا ينكر أحدٌ أن عهد الكاظمي (2020– 2022) شهد تصعيداً في الحملات الأمنية ضد متظاهري انتفاضة تشرين 2019، التي طالبت بإسقاط النظام الطائفي ومحاسبة الفاسدين. تحوّل رئيس الوزراء، الذي قدم نفسه كـ”ابن للشارع”، إلى جزءٍ من آلة قمعٍ استخدمت القوة المفرطة ضد الخيام، واختطاف الناشطين، وتلفيق التهم لهم، بينما عمل مستشاروه على استمالة بعض الأصوات الاحتجاجية عبر وعودٍ مالية أو مناصب هامشية، في محاولة لتفكيك الحراك من داخله.
اليوم، يعود الكاظمي بذات الوجه: رجلٌ تربّع على سدة الحكم بدعمٍ خارجي (أمريكي- إيراني توافقي)، ونجح في تسويق نفسه كوسيطٍ دولي، بينما كانت أدواته الأمنية تُحكم قبضتها على الحريات.
سياسيو “تشرين”.. من الخيام إلى البرلمان إلى الجحود
اللافت أن عودة الكاظمي أُحيَت بهامشية بعض السياسيين الذين ركبوا موجة الاحتجاجات عام 2019، ووصلوا إلى البرلمان بشعاراتٍ حول “تمثيل إرث تشرين”، قبل أن ينقلبوا على مبادئهم. هؤلاء الذين افتقروا إلى رؤية سياسية واضحة، تحوّلوا إلى ديكورٍ في مشهدٍ هيمن عليه تحالفُ الفصائل الميليشياوية والأحزاب الطائفية.
فشلوا في تشريع قوانين تحمي الحريات، أو محاسبة قتلة المتظاهرين، أو حتى بناء تحالفاتٍ برلمانية فعّالة، فخسروا شرعيتهم أمام ناخبيهم. والآن، يبحثون عن منقذٍ يُعيد لهم البريق، معتقدين أن الكاظمي، بعلاقاته الخارجية، قادرٌ على منحهم “شهادة حسن سلوك” دولية، أو إدراجهم في قوائم تحالفاتٍ انتخابية مقبلة.
لماذا الأمل زائف؟
الاعتقاد بأن الكاظمي سيُعيد إحياء التيار المدني هو سذاجةٌ سياسية، أو محض كذب. أولاً، الدعم الأمريكي المزعوم للكاظمي ليس مطلقاً؛ واشنطن تعاملت معه من أجل تحقيق أمنها الإقليمي، لا كقائد مشروع تغييري.
ثانياً، رجوع الكاظمي نفسه ليس إلا محاولة لترتيب تحالفاتٍ انتخابية مبكرة، قد يُضحي فيها بأي من “حلفائه الجدد” إذا تعارضوا مع مصالحه. الأهم من ذلك، أن شرعية أي سياسي عراقي مرهونةٌ بصدقيته في الشارع، وهؤلاء فقدوا تلك الصدقية إلى الأبد.
إن الشباب الذي خرج في تشرين لم ينسَ أن “زملاءه” الجدد هم من صمتوا حين أُغلقت ملفات القمع، أو استفادوا من المناصب في صفقاتٍ مع الفصائل.
الكاظمي والصدر: تحالفٌ قديم يعود بأزياء جديدة
لا تكتمل لعبة الأوهام السياسية دون كشف الخيوط الخفية التي تُحركها، وإحدى هذه الخيوط هي العلاقة الوثيقة بين الكاظمي والتيار الصدري، والتي قد تكون عودته إلى بغداد جزءاً من مسرحيةٍ مُعدة مسبقاً لإعادة التيار الصدري إلى الواجهة السياسية، استعداداً للانتخابات المقبلة.
فمقتدى الصدر، زعيم التيار الذي اشتهر بـ”رقصته” بين المشاركة السياسية والانسحاب الدراماتيكي، يبدو أنه يعيد حساباته اليوم بعد عزلته الطوعية الأخيرة، والتي تسببت في شللٍ حكومي طويل.
الكاظمي، الذي حكم بدعمٍ صدريٍ غير معلن خلال ولايته، يعود الآن كورقةٍ قد تُسهِّل عودة الصدر إلى البرلمان، عبر تحالفاتٍ انتخابية تلمّع صورة الطرفين: أحدهما يتظاهر بـ”الإصلاح”، والآخر يُعيد تدوير نفوذه.
من دعم الولاية إلى صفقة العودة
على الرغم من أن التيار الصدري كان أول من أعلن رفضه التمديد للكاظمي رئيساً للوزراء عام 2022، إلا أن العلاقة بين الطرفين ظلت مُحيَّرة.
فالكاظمي، الذي انطلق إلى الحكم بغطاءٍ من التحالف الدولي ورضىً إيراني، استخدم خطاباً “وطنياً” يتقاطع شكلياً مع شعارات الصدريين، بينما كان تعاونه الأمني مع الفصائل المقربة من إيران يفضح ازدواجيته. اليوم، تُشير الوقائع إلى أن عودة الكاظمي تزامنت مع تحركاتٍ صدريّةٍ لاختبار المياه السياسية، عبر تصريحاتٍ عن “نوايا المشاركة في الانتخابات”، ما يؤشر إلى إمكانية تشكيل تحالفٍ انتخابي بين الطرفين.
الصدر يحتاج إلى واجهةٍ “تقنية” تُقلل من سعار الخصوم تجاهه، والكاظمي يحتاج إلى قاعدة شعبية تعوض ضعفه في الشارع المدني، خاصة بعد فضح دوره في قمع تشرين.
لماذا التحالف الصدري– الكاظمي خطرٌ على التغيير؟
إذا كان السياسيون المدنيون يراهنون على الكاظمي أملاً في شرعنة وجودهم، فإن رهان الكاظمي نفسه على الصدر هو اعترافٌ ضمني بأن شرعيته لم تعد تنبع إلا من تحالفه مع من يملكون القدرة على حشد الشارع، حتى لو كانوا جزءاً من المنظومة الطائفية نفسها. هذا التحالف لن ينتج إلا إعادة إنتاج للأزمات، لأنه يستند إلى مقايضاتٍ مصلحية، لا إلى مشروعٍ حقيقي للإصلاح، فالصدر، الذي يتحدث عن “محاربة الفساد”، هو من تحالف مع أحزابٍ فاسدةٍ حين خدم مصلحته، والكاظمي، الذي يتغنّى بالديمقراطية، هو من أشرف على اختطاف النشطاء.
الأكثر إدانةً أن هذا التحالف قد يُحيي مشهداً سياسياً يقوم على الابتزاز المتبادل: الصدر يمنح الكاظمي غطاءً شعبياً، والكاظمي يمنح الصدر غطاءً دولياً، بينما الشارع يُدفع ثمن الصفقة من دمه وأحلامه.
الخطر الأكبر هو تكرار الدورة
الخطر الحقيقي في لعبة الأمل الزائف هذه، ليس في فشل هؤلاء السياسيين، بل إطالة عمر النموذج السياسي الفاشل نفسه، فبدلاً من بناء تيارٍ مدني حقيقي، يعتمد على برامجَ واضحة ويخوض معركة التغيير السلمي الطويلة، يتم اختزال الأحلام في “أشباح سياسيين” يبحثون عن دعمِ رجلٍ كان جزءاً من النظام.
العراق لا يحتاج إلى من يرقصون على أنغام الوصاية الخارجية، بل إلى من يثقون بقوة الشارع ويخوضون معركته دون مراهنة على أسماءٍ تكرّس الفشل.