منذ أكثر من أربعة عقود ولم يكن العيد ليمر على العراقيين كما يمر على باقي شعوب العالم الإسلامي، فقد كانت الحرب بين العراق وإيران تحصد آلاف الأرواح كل يوم ولم يخلُ بيت أو عائلة أو مجموعة من الأقارب في حينها إلا وقد ثكلوا بعزيز لهم فكان القلق يساور كل من له ابن أو قريب في جبهات القتال وكان هاجس استلام جثمان أحد أفراد الأسرة الرابضين في تلك الجبهات ملفوفا بالعلم هو الهاجس الذي يراود الجميع ناهيك عن القمع والاضطهاد الذي كان يستخدمه النظام السابق في تغييب كل من يعارض سياساته وإعدام كل من يفكر في انتقاد النظام أو الفرار من الحرب.
لم تدم فرحة العراقيين حين وضعت الحرب أوزارها بعد ثمان سنوات عجاف أكلت الأخضر واليابس وتركت في كل بيت مأتم، فما هي إلا فترة بسيطة من النقاهة من تبعات تلك الحرب حتى دخل العراق في حرب أخرى كانت هذه المرة أسوأ من سابقتها رغم قصر مدتها لأنها خلفت تركة اقتصادية واجتماعية وسياسية ثقيلة بسبب الحصار الذي كان أهم نتائجها والذي دام أكثر من ثلاثة عشر عاما قضت على كل البنى التحتية للعراق وقلبت المجتمع العراقي رأسا على عقب، فلم يكن للعيد طعما ولا رائحة بل كان عبئا على أرباب العوائل في تهيئة طقوس العيد لعوائلهم بسبب شظف العيش الذي رافق ذلك الحصار.
وبسقوط النظام الدكتاتوري في العام 2003 توالت الماسي على العراق ودخل البلد في نفق الصراع الطائفي والقومي والمناطقي على السلطة حتى مر العراق بظروف لم يكن لها مثيل لا في تاريخه القديم ولا المعاصر فتحول المشهد من السواد القاتم الذي رافق زمن الحصار إلى الاحمرار القاني نتيجة لنزيف الدم العراقي، القتل على الهوية، سقوط آلاف الضحايا الأبرياء على أيادي المحتل، الموت البطيء نتيجة لتفشي الأمراض وانهيار منظومة الخدمات الصحية والاجتماعية والإنسانية برمتها فتحول المجتمع العراقي من مجتمع متعاون متحاب يعيش بألفة وسلام قبل العام 2003 إلى مجتمع ساد فيه القتل والنهب والسلب والتهجير بسبب انعدام الأمن وتفشي الفساد الذي لف الدولة بكاملها كما تلتف الأفعى على رقبة فريستها دون أن تترك لها مجالا للتنفس فكان العيد منسيا ولم يكن له ذلك الطعم الذي كان يعيشه الآباء والأجداد في سبعينات القرن الماضي وما سبقها.
وبخروج العراق من دوامة العنف الطائفي الذي ترك جرحا غائرا في النفس الإنسانية لا يمكن أن يندمل ويشفى بسهولة، ففي كل بيت مأساة وفي كل شارع فقيد أو مهجر أو مهاجر وصار العراقيون ينتشرون على خارطة العالم حتى لم يكن هناك بلد إلا وتجد فيه عراقي له قصة دفعته لترك بيته وأهله وناسه وصار العراقي يحتل المركز الأول في الهجرة والبحث عن وطن بديل يمنحه بعضا من الأمان الذي فقده ويعوضه عما حرم منه في بلده، فكان العيد ذكرى منسية لا طعم لها.
وبعد ذلك الهدوء النسبي للحرب الطائفية دخل العراق والعراقيون في كابوس احتلال ثلثي العراق من عصابات داعش التي لا تعرف معنى الإنسانية فكانت تغتصب وتقتل وتهدم وتقمع وتضطهد وتفجر وتعلق الرؤوس في مداخل المدن حتى صار المشهد أكثر رعبا من أكثر أفلام الرعب الهوليودية فنسي العراقيون العيد ونسوا معنى تلك الكلمة التي يتداولها كل مسلم على هذه المعمورة.
وما إن تنفس العراقيون الصعداء بتحرير بلدهم من تلك العصابات المارقة ولم يمض عاما واحدا حتى وصل الفساد حدا لا سابق له فقامت انتفاضة تشرين نتيجة لاحتقان الشارع بسبب انعدام أبسط حقوق العراقي فخرج عشرات الآلاف إلى الشوارع رافعين شعار “نريد وطن” بعد أن فقدوا كل مقومات ذلك الوطن الجميل الذي لم يعشه من خرج ثائرا إلى الشارع كما عاشه أجدادهم ولم يروا فيه غير الدمار والقتل والحرمان والموت البطيء وبدلا من تحقيق مطالبهم المشروعة جوبهوا بعنف حكومي غير مسبوق فسقط الآلاف منهم بين قتيل وجريح ومعاق ومغيب ونشطت فصائل تحمل السلاح أخذت على عاتقها تصفية كل من يقف في طريقها وكل من يخرج للشارع مطالبا بحقوقه حتى سقطت الحكومة، لكن سقوطها لم يكن الحل بل كان أساسا لمشاكل لاحقة جعلت من العراقي لا يفكر إلا بأمنه، فكيف يفكر بالعيد؟!
جاء العام 2020 حاملا معه وباءً لم يشهد له التاريخ مثيل فقد عجز العالم المتطور والمتقدم عن مجابهته فكيف ببلد لا يملك أدنى مقومات الخدمات الصحية؟ منظومته الصحية منهارة بالكامل، مستشفياته لا تختلف عن حظائر الحيوانات، أطبائه عاجزون عن علاج المرضى لعدم توفر الأجهزة والعلاج، كوادره الصحية تتعرض للاعتداء والملاحقات العشائرية إن مات مريض دون ذنب منهم، جشع وطمع واحتكار للأدوية والمعدات التي تواجه الوباء، فكيف يحتفل العراقي بعيده في ظل هذه الظروف؟!
لم يكن الوباء أخطر تأثيرا من تنامي الفساد ووصوله الحد الذي صار المسؤول نفسه يتبجح به علنا عبر شاشات التلفاز وصار الاتهام المتبادل بين الساسة وفضح الفاسد بالأسم علنا دون أن تستطيع الدولة محاسبة ذلك الفاسد لأنه ببساطة مدعوم من تيار سياسي أو حزب أو كتلة برلمانية أو تقف خلفه جهات مسلحة تهدد الدولة ومؤسساتها الأمنية والقضائية دون رادع أو خوف، فصارت الكوارث مناسبات يومية يعيشها العراقي وتمر عليه مر الكرام لينساها بعد أيام مستقبلا كارثة جديدة!! حريق مستشفى ابن الخطيب وسقوط المئات من القتلى والجرحى، تصفية الناشطين المدنيين بالكواتم وعجز الدولة عن ملاحقة الجناة، موت المئات لأسباب شتى وغيرها من الكوارث المستمرة!!
فهل هناك عيد يعيشه العراقي كما يعيشه المسلم في دول الخليج مثلا؟ وهل هناك فرحة للصائم بعيده كما يفرح بها المسلم في الدول المستقرة؟ وهل سيقول المتنبي ما قاله قبل ألف عام “عيد بأي حال عدت يا عيد بما مضى أم لأمر فيك تجديد”، لو كان حيا بيننا أم كان سيعتزل نظم الشِعر لهول تلك المواقف؟!