قاسم حول
تكثر، تتكاثر، وتتناسل الفضائيات العراقية ولا تعرف أزواجها إذ يتناوب على أسرتها الأزواج.. يكثر المذيعون ومقدمو البرامج من الجنسين، وتكثر البرامج وتكثر أسماؤها مثل الأولاد بين علي وعمر، ويكثر العويل والصياح.. يتنافسون في إثارة الغرائز والرغبات الكامنة في ذوات المتسلطين على الواقع.. مقدمات البرنامج يرسمن وجوها فوق الوجه، ليس مقدمات البرامج وحسب، بل أيضا مقدمو البرامج ومذيعو نشرات الأخبار.. وليس هؤلاء فحسب، بل المصيبة تكمن في ضيوف البرامج حيث يجبرون على دخول غرفة الماكياج قبل دخول البلاتو وهم يظنون بأن ما يجري لهم من قوانين الفضاء وقانون الحوار السياسي عبر الفضاء.. يدهن الوجه بالطلاء الواجب “وليس المستحب” يوضع الطلاء الأساس “الفاونديشن” الأبيض، ومع نشر الإضاءة بطريقة عشوائية داخل بلاتو القناة، فإن وجه الضيف المتحدث نشاهده وهو “يلصف” بالتعبير العراقي.. يأتي الضيف بذاته للبرنامج محملا بالإجوبة الجاهزة للأسئلة المتوقعة أو المتفق عليها “حسب..!” هو نفسه الذي لا يطيق المشاهد العراقي الطيب والطبيعي النظر صوبه حين يراه تحت قبة البرلمان أو في ديوان رئاسة الوزراء أو في بيوت الوزارات.. فضيف البرنامج لا يطاق كما هو، فكيف حين يدهن وجهه بالطلاء الذي يصل حد الرقبة فيشاهد القسم الآخر من الرقبة بلون ثان، لون بشرته الصحيح من جوف غلاظ القوم المتعاملين مع الجاموس فتعرف على المدينة وأنسته الليموزيل هداوة المشحوف، أو وهو آت من تخوم الربع الخالي فأنسته المرسيدس هداوة البعران، فطلت القناة سحنة وجهه بالطلاء وصار وجها آخر يتحدث وهو “يلصف” كلما حرك وجهه فتعكس الإنارة طلاء وجهه فيظل يلصف على شاشة القناة التي لم نعد نعرف كيف ومن يرفدها بمصروفات الفضاء وغالبية العراقيين عدا المدجنين هم سمر البشرة فيبدو الضيف مضحك السحنة أمام الكاميرا الفضائية.
أنا علمت العاملين معي في الأفلام أن لا يقتربوا كثيرا من المساحيق بضمنهم الممثلات لأنني أريد أن يرى المشاهد وجوهنا الإنسانية ويقرأ تعبير مشاعرنا بصدق.. ولذلك فأفلامي تكاد أن تخلو من المساحيق سوى لمسات تقتضيها الضرورة كمثل تجاوزه العمر أو التشويه الخلقي.. أما ضيوف برامج الفضائيات فهم مشوهون بالأساس، وليسوا بحاجة إلى مساحيق غرفة الماكياج!
عام 1970 نشرت لي مجلة الآداب البيروتية مسرحية “غرفة الماكياج” في عددها المرقم (12) ديسمبر 1970 والمسرحية كتبتها عام 1963 حين تمكنت من الوصول إلى فينا بعد أن إخترقت مسافات المراقبة في الشوارع المرعبة والقطارات وصولا إلى فوزي باشا ومنها إلى صوفيا وصولا إلى النمسا.. وحين إسترحت وقتا بدأت بكتابة المسرحية بعد أن إعتلى صعلوكا عراقيا من سقط المتاع مقعد طائرة “هوك هنتر” تعبانه وصار يرمي بقذائفها على وزارة الدفاع العراقية حيث مقر الزعيم عبد الكريم قاسم، وكان ذلك في الثامن من فبراير\ شباط 1963، فاستسلم مائتان وخمسون طيارا عراقيا فتيا متدربا على طائرات “الميغ” الروسية واقتادهم كسجناء في معسكر الرشيد، وبدأ الذين كانوا متغطرسين يوما في آفاق العراق يدلون باعترافاتهم أمام صبية ما آمنوا يوما بربهم ويدلون الجستابو على مقرات رفاقهم وانهارات قيم وتلاشت شعارات براقة وبدا الواقع خاليا من الادعاءات، إذ تقوم فكرة المسرحية على أن المشاهد المسرحي يرى المسرحية وينسجم معها ولكن حين تغلق الستارة وتتاح له فرصة دخول غرفة الماكياج فإنه سوف يرى الممثلين وهم ينتفون شوارب الصوف ولحى الصوف ويغسلون وجوههم من طلاء المساحيق، ويكتشف أن ما كان يراه ليس سوى لعبة خلقها الإيهام وقدمت كحقيقة تكاد أن تبدو مقنعة!
غرف الماكياج هذه التي نشأت في المسارح السياسية انتقلت اليوم إلى القنوات الفضائية السياسية تتسابق فيها غرف الماكياج في طلاء وجوه المسيسين الذين ينشرون الأكاذيب في الفضاء بوجوه تختفي وراءها سحناتهم الآتية من وراء الجاموس ومن وراء بعران البوادي ليسهموا في تحطيم وطن كان يوما مثلا لجمال الروح وجمال العلاقة وسط غابات النخيل والرطب الجني وبرتقال ديالى ورقم الطين السومرية والعلم والمعرفة والموسيقى والقيثارات وتوقعات أن تصبح بلاد ما بين النهرين حلما ترنو صوبه العيون.. عيون الحساد وعيون المحبين على حد سواء.. لعب الماكياج في إخفاء الوجوه فتظهر للعيان وهي “تلصف” مع الضوء.. ويتهدم الوطن الجميل أو الذي كان جميلا في يوم مضى!
يقول الراوية في مسرحيتي “غرفة الماكياج” والتي كتبتها عام 1963: “أصدقائي الطيبين جدا.. نرحب بكم في مسرحنا هذا. المسرح هو الحياة والحياة هي المسرح والإختلاف بسيط جدا.. في المسرح تدفعون ثمنا بسيطا وتشاهدون المسرحية، أما في الحياة فإنكم تشاهدون المسرحية، ومن ثم تدفعون الثمن.. وقد يكون الثمن هذا فادحاً.. قد تكون حياتكم هي الثمن”!
سينمائي وكاتب عراقي مقيم في هولندا