صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

غزة: مفارقات الهدنة والنصر المتشائل!

يطل سعيد أبي النحس المتشائل برأسه من كوكب الفضائيين، حيث طار معهم لاجئا من واقع يدور حول نفسه، بطقس مشبع بالنحس المنحوت بذاكرته منذ ايام النكبة وما قبلها وبعدها، يقلبها بوجع يطفح بالتشاؤم، الذي انغمس فيه دون إرادته المنفلقة بين التشبث بالبقاء أو الفناء، نحس مسلط عليه منذ قدوم، نابوليون، وحصاره لعكا مرورا بسايكس – بيكو ووعد بالفور، وكل حروب الاخوة الاعداء، وفزعاتهم المنحوسة، الى مذابح النحس من دير ياسين الى جنين، الى تفاؤل الثأر في معركة الكرامة، وتبلور الكيانية الفلسطينية، الى طعنة الظهر في مذابح ايلول الاسود، الى والى والى غزة هذا الشريط الرملي المكتنز بالارواح العنيدة التي قتلت موتها وتشبثت بالبقاء النابض بالحياة المطلقة!

471 يوما من مقاتل اهلها، الذين أعلنوا قبر النحس والى الأبد، يقول المتشائل: فيها العجب العجاب وأعظم الأسباب، فيها الاعجاز والانجاز، السماء بابها والبحر شباكها، غزة مفتاح الخلاص من قهر المستعمرين، ومنار يهدي العالمين!

مفارقات من طقس الهدنة: 

عدو يقتل اسراه بخبث ولؤم كي لا يدفع فديتهم، وهو القادر على دفعها، ويدعي بأنه الاكثر اخلاقية في هذا العالم، يقتل ويجوع ويغتصب ويهين الاسرى الفلسطينيين، وغزة تكرمهم وتسهرعلى راحتهم وتحرص على احترام آدميتهم رجالا كانوا ام نساء.

عدو مطلق اليدين، ويملك العدة والعدد، ومتميز بقدراته الاستخبارية والمعلوماتية ومقتدر بعمليات الغدر بكفاءات خصومه، ومن يرعاه، يزوده بما يفتك بالبشر والحجر والشجر، ويستخدم الاسلحة المحرمة، وسلاح التجويع، ويفتك بالمدنيين العزل ويتعمد سياسة الارض المحروقة، والتدميرالشامل لمصادرمياه الشرب، والمستشفيات، والبيوت الآمنة ومخازن الغذاء والوقود، بوجه مقاومة محدودة القدرات ومحاصرة منذ عقود، وليس لها مدد، ولامعين غير شعبها وعزيمتها، تصمد، وتثخن بقواته الباطشة، وتجبره على المهادنة وتبادل الاسرى، اذا لم يكن ذلك انجازا يبعث على الاحساس بشيء من النصر فماذا يكون ؟ لقد تكالبت اعظم قوى البطش في العالم على اهل غزة، وقد تكاثرت طعنات الظهر، وقد تخاذل الذين لا يجب ان يتخاذلوا او يخونوا، وإنتكست الحالة برمتها، ومع كل ذلك تحمل اهل غزة، ولم يستسلموا، لانهم يؤمنون بأن لا خيار امامهم، اما المقاومة او الاستسلام لشروط المحتلين التي ستجعلهم كالعبيد.

نصر اخلاقي وروحي انساني كبير، وهو مقدمة وارهاص لنصر اكبر، وبرغم الخسائر البشرية الفادحة والمادية الجسيمة، إلا ان العدو لم يحقق اهدافه، وقد استنفذ كل ادوات دورة بطشه، وبقي ان لا ينحس الاقربون ما انجزه عشاق الحرية والحياة في غزة، وإن لم ينفعوا فلا يضروا، وكما قالها نزار قباني : يا تلاميذ غزة علمونا بعض ما عندكم فنحن نسينا، لا تسامحونا يا تلاميذ غزة.. بالله عليكم لا تسامحونا.

جمهور العدو منقسم ومفتون بالاحتجاج على سياسات قادته الذين تلاحقهم لعنات اغلب شعوب العالم واحراره، والمنظمات الدولية والانسانية تطالب بمحاسبتهم، اما الجمهور الفلسطيني في غزة والضفة والشتات فهو متعاطف باكثريته الساحقة مع مقاومته وصمودها ومعه كل احرار العرب والعالم من مسلمين ومسيحيين وبوذيين ولادينيين، بما فيهم احرار اليهود المناوئين للصهيونية.

 قادة العدو يطلقون سراح الاسرى الفلسطينيين وهم مكرهون ومتوترون ومحرجون، ويأمرون بمنع عوائلهم من اقامة اي مظاهرللفرح والاحتفاء بتحرير ذويهم، بنفس الدرجة التي يتوترون فيها ويحرجون عندما تتظاهرعوائل الاسرى الاسرائيليين مطالبة الحكومة بوقف الحرب والموافقة على صفقة التبادل، فيقمعون، حتى صاروا لا يثقون بتبريرات حكومتهم ووعودها الكاذبة بل ان الكثير منهم يثق بما يتداوله اعلام المقاومة، وهذا ما يفسر تزايد تظاهراتهم ومطالباتهم بانجاز كل مراحل الصفقة دون توقف وعراقيل مختلقة، فيما تزف المقاومة في غزة، الاسرى الاسرائيليين بمواكب احتفالية، يغبط بها الآسر والمأسور، وبحضور جماهيري بهيج وبتفاصيل تكرس رقي ودقة اداء اجهزة المقاومة التي تعكس انضباط عالي لا تملكه الا دولة تحترم نفسها، وليست حركة مقاومة منهكة كما يريد تصويرها الاعلام الصهيوني ومعه اعلام المتصهينين. 

المفارقة هنا تخص سلوك السلطة الكارتونية في رام الله، فقبيل سريان مفعول الهدنة، كانت شرطتها وبالتنسيق مع الاجهزة الامنية الاسرائيلية تحاصر مخيم جنين لتعقب نشطاء كتائب المقاومة فيها، ووقعت مصادمات واصابات، وبعد دخول الهدنة حيز التنفيذ قررت القيادة الاسرائيلية اطلاق عملية عسكرية كبيرة في الضفة الغربية تكون جنين ساحتها الاولى كترضية ومقايضة لليمين المتشدد في الحكومة، وتحديدا سموتريش ليتقبل قرار الوقف المؤقت للحرب على غزة، وإشغاله بمشروع ضم ما امكن من اراضي الضفة ووضعها تحت السيادة الاسرائيلية حيث يسيل لعاب زعيم حزب الصهيونية الدينية، أقتحمت القوات الاسرائيلية مخيم جنين بنفس الوقت الذي اخلت فيه شرطة السلطة مواقعها بحالة لا تثير سوى التهكم والأسف، وربما الشفقة على الدرك الذي وصلت اليه، وما زاد الطين بلة السلوك العدائي لرجال امن السلطة ازاء تظاهرات الفرح العفوي في مناطق رام الله، بالمفرج عنهم من الاسرى الفلسطينيين، فكانت مطاردة حملة اعلام حماس والجهاد محط تندر وازداء الحشود المبتهجة.

يتجلى تلازم سلوك السلطة مع السلوك الامني الاسرائيلي ايضا، في العلاقة القمعية مع مكاتب وصحفيي ومراسلي قناة الجزيرة، فبعد اغلاق مكاتب قناة الجزيرة في رام الله، تم اعتقال المراسل محمد الاطرش لتغطيته الصحفية للحملة غير المباركة على جنين غراد.

على طريق العودة الكبرى

على مفرق الشهداء “محور نتساريم” طوفان لا ينقطع من العائدين الى الديار المحفورة في ارواحهم، مرابعهم، التي حولها العدو الى اكوام من الردم ليبعث فيهم روح الجزع واليأس والنحس حتى يرحلوا صاغرين بلا عودة، بلا رجعة، لكنهم وإن كانوا لا يخدعون انفسهم بيوم يقيني مختلف ومطرز بالتفاؤل، على دراية بأن ديارهم مرسومة في رؤوسهم، وسيخرجوها لتنصب من جديد امامهم، وعلى ارض الواقع، قد تكون الخيمة، مجرد اضطرار، لكن في إعمار الدار منتهى النشوة، فمازال رسمها منظور ومفتاحها معلق على الصدور، العائدون يدركون ما لايدركه ترامب ورهطه، فالوطن ليس بيتا مصطنع ولا نزل مؤقت، الوطن طقس دائم، فيه سر الانتماء للارض، ارضهم التي خبروها وخبرتهم ومساماتها مشبعة برماد موتاهم وهواء وأهواء الناجين منهم.

تعمدت حكومة نتنياهو ومع سبق الاصراروالترصد، محو كل مقومات الحياة في غزة لتعجيز الناجين من مجازرها على البقاء فيها، ولو على مراحل وبالتدريج لتكون غزة بيئة طاردة لسكانها، حتى لو توقفت الحرب، لأن الإمعان في تنغيص حياة الغزيين من خلال مواصلة حصارهم والتحكم بغذائهم ودوائهم ووقودهم وبحرهم وفي كل واردة وشاردة منهم واليهم، سيدخل الغزيين بمعركة اخرى طويلة، تكون فيها عملية إعادة الإعمار هدف بعيد المنال، مما يستوجب استعدادا، وطنيا فلسطينيا، وعربيا، ودوليا، للضغط على إسرائيل ووقف عراقيلها لمشاريع الاغاثة واعادة الاعمار، والعمل على ابتداع صيغة مناسبة لعمل وكالة الاونروا في القدس والضفة وغزة بعد قرارحكومة نتنياهو بحضر التعامل معها، واحباط المحاولة الظالمة لتشويه صورتها، وغلق ملف اللاجئين الفلسلطينيين، وتنشيف مواردها المعتمدة على تبرعات الدول المانحة، ومن الانسب هنا ان تبادر الدول العربية والاسلامية لعقد قمة دولية مخصصة لاغاثة واعمار غزة وكسر الحصار المفروض عليها وتبني الامم المتحدة انشاء صندوق دولي لهذا الغرض، تساهم به اسرائيل كشكل من اشكال تحمل الاعباء، كونها المسؤولة المباشرة عن الدمار الشامل في غزة، والذي لا يتناسب بالمطلق مع الضررالمادي والبشري الذي أصابها، ويبقى التشاؤل سيد الموقف. 

أقرأ أيضا