صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

فاضل ملا سلمان ..!

وعمري ست سنوات فقيرا أو تحت حد الفقر، في ناحية المدينة جنوبي العراق، وفيما كنت مع اطفال بعمري وأكبر مني نصطاد السمك بالصنارة، في مرسى المراكب الممتد في عمق نهر الفرات، ونحن ننتظر وصول مركب السينما الجوالة التي تنظمها النقطة الرابعة الأمريكية، تحرك بإتجاهي طفل مثلي، ووقعت في مياه نهر الفرات .. حتى وصلت القاع .. أتذكر أني قلت مع نفسي “سوف تأكلي السلاحف” .. أحسست بأن يدأ تنتشلني من قاع النهر .. كان الذي أنقذني شاب إسمه “فاضل ملا سلمان”.

 

إنتقلنا من ناحية المدينة إلى مدينة البصرة .. وخفت في بادئ الأمر من أكتظاظ السيارات والناس بملابس غير ملابسنا، ويتحركون بإيقاع أسرع من إيقاع حياتنا في القرية.

 خفت كيف لي أن أستدل على بيتي وعلى المدرسة .. ولكن حين دلف الباص الذي ينقلنا، نحو غابة من الأكواخ القصبية في حي المعقل “الماركيل” شعرت بالإطمئنان إني في وطني الذي أعرفه .. أكواخ بائسة تصطف بإتجاهين على ضفة نهير آسن تنبعث منه روائح كريهه وعلى ضفتية وعلى مسافات متباعدة  مرفقين من الزينكو واحد رسمت عليه صورة رجل بالعقال “للرجال” والثاني رسمت عليه صورة إمرأة محجبة “للنساء”!

 

ليلا، كنت أرى نارا ملتهبئة تتوهج في سماء البصرة .. سألت عن النار فقالوا لي أنها نار النفط العراقي .. وعرفت فيما بعد، أن بريطانيا هي التي تأخذ هذا النفط وقد بنت لنا مقابل ذلك، مرفقين على ضفة النهر الآسن .. ورسمت عليه صورة رجل بالعقال وإمرأة بالحجاب!

 

حين بلغت السادسة عشرة من عمري وأنا أعرف حجم الفاقة التي أعيشها وعرفت السبب والمسبب، قدت مظاهرة في البصرة .. وهتفت “فليسقط الإستعمار البريطاني” وردت خلفي الجماهير “يسقط يسقط يسقط”.. ليلا تلقيت لكمة من ضابط الأمن “ناظم الأطرقجي” في مديرية الأمن، رمتني على الجدار الإسمنتي وفج رأسي ثم وجدت نفسي في المعتقل وبعد فترة وجدت نفسي في المحكمة العسكرية في القاعدة البريطانية التي تسمى “آر – أف” في البصرة. كانت هيئة المحكمة يترأسها أحمد صالح العبدي وكان يدافع عنا المدعي العام راغب فخري.

 

عدت إلى الحياة الدراسية والإجتماعية والثقافية والسينمائية .. وكل شيء مدون في مذكراتي التي أوشك على وضع اللمسات الأخيرة عليها .. وسأدفع بها إلى النشر ..

أنا من وطن إسمه العراق .. وهذا الوطن الذي لم أر فيه من أحلامي سوى نسيمات عابرة ونادرة تمر علينا مرور الكرام .. وأعرف أن هذا الوطن لو عرفنا كيف نرد إليه جميل تاريخه وجميل أنهاره و جميل باسقات نخيله، وجميل كنوزه المخزونة في أراضيه .. والله لما مر شبح فيروس في سمائه وفي هوائه ومائه لما عرفت صباياه سرطان الرحم فيلدن أجيالا مشوهة .. وهو يتدهور يوما بعد يوم .. نبتعد عنه ويبتعد عنا .. ونتلاشى .. أو سنتلاشى، ونترك أبناءاً وأحفاداً لا يعرفون أنهم من رحم غرينه ومن رحم رقمه الطينية المفخورة في التاريخ .. والله لو عرفناه وعرفنا معناه، لمتنا عشقا فيه  ولمتنا من أجله خوفا عليه، ولن نموت خوفا منه!

 

ذات يوم من عام 2009 حين عدت إلى الوطن من رحلة الهجرة وما يطلق عليها المنافي، وأنا بصدد إخراج فيلمي “المغني” علمت بأن “فاضل ملا سلمان” الذي أنقذني من عمق نهر الفرات،  لايزال على قيد الحياة، وهو يقيم ليس بعيدا عن منطقة تصوير الفيلم. قالوا لي يجلس كل يوم أمام دكان قريب من سكنه .. يقضي وقته هناك ..

ذهبت إلى المكان .. وجدت رجلا يجلس أمام دكان .. توقعته هو .. وكان هو فعلا .. كهلا يرشف الشاي .. وقفت أمامه سألته لأتأكد من شخصه ..

 

أنت فاضل ملا سلمان ..

قال لي نعم .. تفضل ..

قلت له أنا قاسم حول ..

نهض .. عانقني وصار يبكي ..

قلت له .. هل تذكر يوم أنقذتني غريقا في عمق نهر الفرات في ناحية المدينة ..

قال لي – وكيف أنسى ..

قلت له .. لقد جئت لا أعرف، هل أشكرك أم أعتب عليك!؟

                                                                         

 

 

سينمائي وكاتب عراقي مقيم في هولندا

 

 

 

أقرأ أيضا