صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

فيروز لولا فيلمون وهبي

مع كم الاستذكار الضخم الذي مر علينا الأسبوع الماضي في تسعينية الفنانة فيروز، أطلق هذا السؤال بطريقة “فيروز لولا الرحابنة” في نوع من الإجحاف التاريخي بحق الفنان فيلمون وهبي، الذي أرخ في صوت فيروز ما يمكن أن يكون فاصلة في الغناء العربي، حد أن وصفت الفنانة فيروز ألحان وهبي لصوتها بأنها “تأخذ العقل وضد الفشل” وقالت في شهادة تاريخية كان يفترض أن تكون في متن الاستذكار الذي حفلت به وسائل الإعلام على مدار أيام “حزن فيلمون من يصنع ألحانه، وليس مسراته.”

أتدرون لماذا؟ لأن الصورة التلفزيونية والمسرحية السائدة عن وهبي هي التي توزع المسرات إن غنى وإن مثّلَ وإن تكلّمَ.

لكن هذا الملحن العبقري الذي اعتبره الباحث الموسيقي الفلسطيني إلياس سحاب “الأب الشرعي للأغنية اللبنانية” لم يدرس الموسيقى واستخلص أرواحا هائمة من آلية المفردات في جمل لحنية باهرة، يكاد يعبر عن ذائقتنا السمعية برمتها مثلما يكاد يكون التعريف الأمثل لفيروز التي نحبها وإن ارتبط غناؤها دائما بالرحابنة.

يكفي هنا أن أدرج أسماء بعض الأغاني التي صنع منها ما يسمو بصوت فيروز ليتفق معي قراء هذا المقال، بعد أن لحن ما يقارب 26 أغنية لها فيما يمكن أن نسميه وفق علوم الغناء بـ”البساطة المعقدة” عندما كان يتنقل بين مقامي البيات والرست بطوعية لحنية تمس شغاف الأرواح، لذلك بقي الرحابنة شهودا على ألحان وهبي، مع أن التاريخ المجحف لم يمارس عدالته معه! هذه بعض ألحان وهبي لفيروز في قصائد كتب أغلبها جوزيف حرب، انتهت بأغنية “ياريت” قبل رحيله عام 1985 وابتدأت بـ “ياكرم العلالي” عام 1961، ثم “فايق ياهوى”، “طيري يا طيارة”، “جايبلى سلام”، “عالعالى الدار”، “يا مرسال المراسيل”، “كتبنا وماكتبنا”، “على جسر اللوزية”، “صيّف يا صيف”، “ليلية بترجع يا ليل”، “يا دارة دوري”، “من عز النوم”، “أسامينا”، “لما عل الباب”، “طلعلى البكى”… ألا تكفي تلك الأغاني لتجعل من فيلمون التعريف المثالي لفيروز؟

لم تكن ألحان فيلمون مقتصرة على فيروز مع أن الرحابنة “سمحوا” له بتلحين أغنية واحدة في كل مسرحية لفيروز، بل أنه ابتدأ مع نجاح سلام وصباح ووديع الصحافي ومن يعود إلى أغنية “برهوم حاكيني” لنجاح سلام يدرك المقدرة المعبرة لهذا الفنان في صناعة الجملة اللحنية المدهشة، بل أن أغنية “بتروحلك مشوار” لوديع الصافي وأحبها الجمهور في الخليج العربي بصوت غريد الشاطئ تكاد تكون فاصلة تاريخية في الغناء العربي.

كان فيلمون مولعا حد الشغف بالموال العراقي، كما اعترف بذلك لصديقه الموسيقار العراقي وديع خونده الذي زامله لسنوات في إذاعة الشرق الأدنى، وكان لا يخفي هذا التأثير وينقله بألحانه، حتى صار معروفا في عقد الخمسينيات والستينيات ما سُمّي في لبنان بـ”الموال البغدادي” ولو عدنا إلى لحن “يا طير الطاير قولو” لصباح لوجدنا التأثير العراقي في ألحان وهبي بشكل لا لبس فيه. في هذا اللحن وضع فيلمون في صوت صباح ما تسميه الفنانة والباحثة الموسيقية الدكتورة غادة شبير “القاعدة المقامية في الغناء العربي برمته” وهي في هذا الرأي تنطلق من معرفة موسيقية في أصول النظريات المقامية.

لقد أجمعت الاستذكارات في برامج تلفزيونية ونصوص مكتوبة في الاحتفاء بفيروز “سيدة ذائقتنا السمعية بلا منازع” في تسعينيتها بوصفها الحل الذي نتفق عليه جميعا في أي جهد لاستعادة الغناء العربي المخطوف اليوم، وكان ذكر الرحابنة في هذا الاستذكار يعبر عن عدالة تاريخية لا شك فيها، لكن من الإجحاف أن يغيب اسم الفنان فيلمون وهبي وهو الذي عرفنا بمعنى “أسامينا”! وكان عليه أن يلوح لنا قبل الرحيل بعد أن ترك روحه في تساؤلات موجعة في أغنية “ياريت”.

أقرأ أيضا