صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

قانون الأحوال الشخصية وسوء العاقبة

مثل الأفلام التي تقدم قصص مثالية عن نهايات يفشل فيها صاحب الغرض الشرير في الوصول إلى مبتغاه ويسقط في نفس حفرة كان يريد الهروب منها، أو يُسقط فيها أعداءه، حدث لقانون الأحوال الشخصية الجديد وبالنواب الذين دفعوا باتجاه إقراره. 

تبدأ قصة هذا الفلم بالحملة التي قادها نواب في البرلمان العراقي محسوبين على الشيعة لتعديل قانون الأحوال الشخصية، مقدمين سردية المكون الأكبر ممزوجة بشرعية الأقلية، لتنتهي بتبني مقترح قانون يهدف لتشريع يفصل الشيعة واحوالهم الشخصية عن باقي العراقيين، ويكرس لمبدأ التفتيت الطائفي الذي بدأ من 2003 إلى الآن، ولكن خطورته لا تقف عند تكريسه للطائفية بدل المواطنة، فتصبح الطائفة هي المُعرف، فينكسر المشترك بين العراقيين، ليُقدَّم المختلف ويكون هو الأساس.

 بل يتعدى ذلك، فنتيجة هذا القانون ستكون خلق سلطة تشريعية موازية لسلطة البرلمان، من خلال مدونة شرعية يكتبها رجال دين وفق قياسات فقهية، بعيداً عن القانون والدستور العراقي، لتكون (هذه المدونة) بديلة عن القانون الحالي لا تعديل لمواده، وبالنتيجة هو قانون وضع ليسلب السلطة التشريعية عن سلطة البرلمان، ليضعها بيد أشخاص لا صفة رسمية لهم في الدولة ومؤسساتها، وهذه سابقة في خلق سلطة رابعة ضمن سلطات الدولة.

والأنكى من ذلك، قُدِّم هذا التشريع لجمهور الشيعة على أنه مشروع مقاومة ضد سلطة الدولة، وكأنهم أقلية صغير في بلد يحاول سلب إرادتهم وحقوقهم، وعندما وقف ضده أقلام وأصوات شيعية، انبرت لها منابر وعمائم متهمة هذه الأصوات بالفسق والفجور، وحتى وصلت إلى الرمي بأكبر تهمة دينية وهي الخروج من الدين، ويعلم الجميع أن هذه التهمة تؤدي بصاحبها بلا شك إلى القتل. 

ناهيك عن هذه المشاكل الكبيرة التي يثيرها القانون، فهو أيضاً متهم بأنه إعادة إحياء الرخصة لممارسات عليها إشكاليات كثرة مدفونة في بطون الكتب، أهمها زواج القاصرات، وهو فعل يُجرم عليه القانون الحالي، ويحاول القضاء عليه، لتأتي هذه المدونة بسلطة هذا القانون الجديد، لتعطيها بعداً شرعياً وطبيعياً ومباركاً أيضاً، كونه تشريع إلاهيّ حسب ادعاء المتبنين له. 

ولأنه قانون طائفي لا يشمل جميع العراقيين، خضع لعملية المساومة من الكتل السياسية التي تمثل في البرلمان طوائف أخرى، لتُنتج هذه المساومة ثلاث قوانين وُصفت بأنها “جدلية” وفي الحقيقية هي كارثية. 

لهذا دخلت هذه الكتل بصراعات وتجاذبات فيما بينها للوصول إلى صفقة تُرضي الجميع دون الأخذ بالحسبان أي معارضة لأصل هذه القوانين، من داخل البرلمان أو خارجه، فبالنسبة لهذه الكتل لا شرعية إلا لأصوات رؤسائها ومن ورائهم زعماء الطوائف المفترضين. 

وعندما أُنجز الاتفاق بينها، خرج علينا البرلمان بصورة هزيلة ليصوّت على هذه القوانين الثلاثة بزمن لم يتعدَّ عشر ثوانٍ بين طلب رئيس الجلسة التصويت، وإعلانه الموافقة على القوانين بقرعة مدوية بمطرقته الخشبية على طاولة الرئاسة، وقام معلناً رفع الجلسة من كرسيه والخروج، وكل هذا حدث بلا رفع رأسه ليرى من وافق برفع يده ومن لم يرفعها، وبدون أي اهتمام يُذكر لهرج وصياح النواب المعترضين، وما أهمية هذه الاعتراضات حتى لو خرجت من جميع النواب، مادام سادة المجلس (رؤساء الكتل) الذين لا يزيد عددهم على عدد اليديّن موافقين، وسوف يُسكتون أي معارضة أو تشكيك بالعملية التصويتية التي حدثت. 

وبالنتيجة، حَصل النواب الشيعة على مبتغاهم في إمضاء هذا القانون، لكن مع إضافات ستبقى مرتبطة بهذا القانون كوصمة عار لن تفارقه، وهي براءة الإرهابيين، وسراق المال العام، وتجار المخدرات، والمتسببين بإهدار المال العام، مع تشكيلة جرائم أخرى يشيب لها الرضيع.

مع قانون العقارات الذي يهدف لإرجاع عقارات لأكراد في محافظة كركوك وهو قانون في النهاية وضع لإرضاء الاكراد لأخذ موافقتهم على قانون الأحوال الشخصية، كما يحدث بالضبط عند التصويت على الموازنة أو عند عدم المطالبة بواردات النفط المباع في الشمال، وغيرها. 

وهنا نحن أمام حالة صارت تتكرر في السياسية العراقية طوال السنوات العشرين الماضية، وهي فرق العقليات بين السياسيين الشيعة وغيرهم من باقي الكتل، في الوقت الذي أعطى فيه الشيعة الموافقة على مكتسبات مادية حقيقية للأكراد والسنة، وبالتالي الظهور أمام جمهورهم المتحزب بمنظر المنتصر، لم يأخذ الشيعة غير قانون لن يؤدي إلا لزيادة الأزمات بين الناس، وأقل ما يقال عليه انه ولد ميتاً، انها فرق العقلية بين من يعمل بالواقع، ومن يسبح في عالم الحلم والأوهام.

نحن الآن أمام الانهيار الكبير للدولة العراقية بقيادة سياسيين محسوبين على الشيعة، مستعدين لتفتيت العراق وبيع أجزاءه والتنازل عن أمن البلد واقتصاده في سبيل تحقيق أهدافهم الضيقة التي هي بحد ذاتها مدمرة لمستقبل البلد. 

ولا يُستبعد في وقت لاحق من عمر هذا البرلمان أو البرلمان القادم، أن يُدفع باتجاه تشريع من هؤلاء النواب يرخص أسواق النخاسة، ومن أجله يُقر الأقليم في المنطقة الغربية، أو يُفصل الشمال بدولة مستقلة، أو تعطى محافظة كاملة لدولة مجاورة، أو يتم التنازل عن الموازنة الاتحادية كلها في سبيله.

أنتهى هذا الجزء من فلم الأحوال الشخصية بانتصار وهمي لهؤلاء النواب، ولكن مع سوء عاقبة للدولة العراقية بكاملها، ومرحلة الانهيار التي حاول هؤلاء السياسيين إيقافها أو عكس تأثيرها، تصاعد تأثيرها وتسارعت وتيرتها الآن بطريقة لن يستطيع إيقافها أحد. 

وبالنهاية، هذه الأيام سوف يكتبها التاريخ عن رجالات حكموا دولة عظيمة مثل العراق، وأردوها قتيلة مقطعة الأوصال، لا مؤسسات تحكم، ولا برلمان يراقب، والحكام فيها هم أشخاص أخرون لا نعرفهم والأكيد هم لا يعرفوننا أيضاً. 

أقرأ أيضا