صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

قراءة في تجارب العراقيين مع الانظمة

نقرأ دائما ان الانسان ميّال بالفطرة إلى تنظيم حياته العامة والخاصة لاستثمار أقصى ما يمكن من الوقت والجهد في مسيرة الارتقاء نحو غاياته، ونقرأ ايضا ان من يخالف هذه الفطرة ويجعل اموره تسير بشكل غير منظّم وعشوائي سيواجه الكثير من المفاجآت التي تنغص حياته، ولا يستطيع تحقيق شيء من تطلعاته.

هذه الحقيقة الفطرية لا تنطبق على الإنسان باطاره الفردي بل تشمل الإطار الاجتماعي ايضا، ويمكن القول إنّ التنظيم في الحياة الإجتماعية للانسان يمثل ضرورة عقلية وشرعية إلى جانب كونها ضرورة فطرية، بالنظر لجسامة الاخطار التي يمكن أن تلحق بالمجتمع في حال ابتعد عن تنظيم أموره بالشكل الذي يضمن انسيابية الحياة العامة فيه.

لذا يمكن القول ان الدول التي ادركت هذه الحقيقة الفطرية وعملت على تنظيم أمورها واستثمرت مواردها لتحقيق أقصى قدر من الفائدة، نجحت إلى حد كبير في توفير رفاهية العيش والأمان والاستقرار لشعوبها، وعلى العكس من ذلك فإن الدول التي ابتعدت عن مقتضيات هذه الفطرة ولم تولها الاهتمام المناسب واجهت وستواجه تداعيات خطيرة لا يمكن التنبؤ بها.

وتأسيسا على ما تقدم يمكن القول إن من أهم خطوات التنظيم هو أن تجد الشعوب نظاما اداريا قادرا على استثمار موارد الدولة البشرية والمادية بالشكل الذي يضمن تحقيق الرفاهية والاستقرار لشعبها، ولذلك نجد أن موضوع النظام السياسي اخذ حيزا كبيرا من اهتمام الباحثين والمفكرين والمنظّرين، وتعددت قناعاتهم بشانه، فأيّد بعضهم النظام الرئاسي وذهب الآخر ليؤيّد النظام البرلماني، واصطف ثالث إلى جانب النظام الملكي، وآخر إلى جانب النظام الديني … وهكذا تعددت الطروحات ووجهات النظر استنادا إلى قناعات متبنيها.

أعتقد ان شكل النظام السياسي لا يعد عائقا جوهريا في عملية التنظيم وانما الاهم منه اختيار القائمين على هذا النظام، ولعل من المناسب أن نضرب مثالا عن العراق، فمنذ قيام الدولة العراقية الحديثة في العام ١٩٢١ إلى اليوم حكمه النظام الملكي ثم الجمهوري بشقيه الرئاسي والبرلماني، وكلها حُكم عليها بالفشل في إدارة الدولة.

واعتقد أيضا ان هذا الفشل لا يرجع إلى النظام بمفهومه النظري بل إلى مفهومه التطبيقي، أو بعبارة أدق ان سبب الفشل يكمن في القائمين على النظام الذين لم يستطيعوا إدارة الدولة بالشكل الذي يضمن تحقيق الاستقرار والرفاهية لشعوبهم.

وهنا نجد أنفسنا أمام تساؤل يفرض نفسه بقوة هو.. ما سبب الفشل الذي يعيشه العراق منذ عقود؟

وللإجابة عن هذا التساؤل لا بد من الالتفات إلى حقيقة جوهرية، وهي ان القيادة جزء من المجتمع ولا تنفصل عنه بحال من الأحوال، وان فشلها يكشف عن خلل في قدرة المجتمع على إنتاج قيادة واعية مدركة لتطلعات شعبها تمتلك من الخبرة والحكمة والمعرفة ما يمكنها من النجاح في إدارة الدولة، فكلنا يقرأ والبعض يتذكر ان العراقيين كانوا يعيشون حياة البؤس في العهد الملكي، وكان الكثير منهم يعتقد أنه بمجرد زوال هذا النظام ستنتهي مشاكلهم، إلا أن شيئا من ذلك لم يحصل بعد أن تحول نظام الحكم إلى جمهوري، فعلى الرغم من تحقيق شيء من الرفاهية للطبقات المسحوقة في العهد الملكي الا ان بقية فئات المجتمع لم تلحظ تغييرا واضحا في الأداء، حتى وصل الأمر إلى حكم النظام البعثي الذي ملأ البلاد بأنين الثكالى وعبرات الايتام وكان الجميع يعتقد أن زوال هذا النظام سيكون مفتاح السعادة للشعب، إلا أن ذلك لم يحصل ايضا بزواله، بل حصل ان دخلت البلاد في متاهة الفوضى العارمة التي هي أقرب إلى حكم الغاب، حيث مافيات الفساد وانتشار السلاح والقتل على الهوية وتجذّر الطائفية وتنمر الإرهاب وعجز الحكومة عن مواجهة اي من تلك المشكلات، وبرلمان أصبح جزءا من المشكلة.

هذه الحقائق تكشف عن أن التغيير العشوائي للأشخاص في إدارة الدولة ليس حلا على الإطلاق، بل قد تكون نتائجه عكسية تماما وتفرز واقعا أسوأ مما كان عليه الامر.

لذا فان السبيل الأقرب لتحقيق تحوّل إيجابي في إدارة الدولة يكمن في إدراك النخبة الخيّرة لمسؤولياتهم الوطنية والتصدي لها بقوة، والبدء بخطوات جادة لتأسيس مشروع إصلاحي شامل قائم على النهوض بالمستوى الثقافي للجمهور وجعله قادرا على تحديد خياراته الوطنية بعيدا عن المؤثرات الأيديولوجية أو النفسية أو العاطفية،  والتي غالبا ما تكون حاضرة لدى المجتمعات المتخلّفة عند اختيار ممثليها في قيادة الدولة.

أقرأ أيضا