يقترب عمر دولة العراق الحديث من 100 عامٍ، وهو رقم كبير في عصرٍ أصبحت فيه دول كثيرة ترتقي قمم المجد في غضون عقدين او ثلاثة، وقد التفت مجلس الوزراء قبل أيام الى عدم وجود يوم وطني للعراق، وهو جهد استثنائي أن يُناقش هكذا موضوع (ربما يُعد ترفاً) في الوقت الحالي, لعله اعتبر التحديات الراهنة هي جزء من الواقع لن تنتهي قريباً والاستمرار بتاجيل هذا الموضوع الحيوي هو خسارة كبيرة لاجيال عراقية ولدت وماتت وهي لاتعرف اليوم الوطني لبلادها!
ساعد الله الكاظمي الذي يحاول مسك العصيّ من الوسط في كل سياساته: عصا الاحزاب والثوار, عصا ايران وامريكا, عصا الفساد والتوازن السياسي وأخيراً عصا اليوم الوطني ومحاولة اختيار يوم لايُختلف عليه, فحتى لو اختار يوم 30 شباط فبراير كيوم وطني فلن يسلم من النقد. ولا اكتب هنا لانتقد اداء رئيس الوزراء ولاكابينته وانما انتقد الذهنية التي نفهم بها الوطنية.
ان اختيار يوم “الخلاص” من الانتداب البريطاني كما عبر البيان كأنه هروب لحدثٍ تاريخي بعيد نسبياً من أجل تجنب ردود الفعل أكثر منه كرمزٍ وطنيٍ. فالجدل يحتدم في كل ذكرى حول توصيفٍ مناسبٍ لها (انقلاب ام ثورة), (احتلال ام تحرير).
وبما ان العراق قد مر باحتلالين خلال عمر دولته الحديثة، فلا بأس بمقارنة سريعة بينهما بقدر تعلق الامر بموضوعنا. وجه الشبه بين الاحتلال البريطاني والامريكي كبير فكلاهما خلص العراق من نظام شمولي وساعد بانشاء نظام انتخابي يختار فيه الشعب ممثليه وبعد ان انجزا المهمة طالب الشعب بخروجهم ليعتبر يوم الخلاص فيه من المتفضلين عليه بالنظام الديمقراطي بانه يوم وطني! وهذا ينطوي على احد امرين إما هو عدم اعتراف بسلامة تلك الديمقراطية المستوردة وانها ليست صناعة وطنية او اننا جاحدو نِعَمٍ ونرمي كل من علمنا الرماية ما ان تشتد سواعدنا. لعل تعدد المحتلين وازمانهم قد ادى الى تشابه المحتل علينا “وانا ان شاء الله لمهتدون” , فنحن نحتفل بالذكرى التي دخل فيها المحتل الى البلد (بدعوى تخليصنا من النظام السابق) ونحتفل باليوم الذي خرج فيه! كما اننا نعتبر ان الاخلاص من الاول (البريطاني) عيداً لا ينطبق على الثاني (الامريكي)! في حين ان الاحتفال بالخلاص من الثاني اولى حين عاد البلد مُحتلاً!
مفهوم الوطنية مرتبط لدينا بشعارات اكثر من ارتباطه بالحياة الكريمة للمواطن, فبريطانيا التي نحتفل بالخروج من تحت انتدابها لازالت دول كبرى كاستراليا ونيوزيلندا وكندا تخضع لتاجها الملكي دون ان يمس ذلك من هيبتها وهي تتربع على عرش الصدارة العالمي من حيث الاقتصاد والنظام الصحي والتعليمي والأمن والرفاه. لم ينقص منها الانضواء تحت العلم البريطاني وان استقلت بشكل من الاشكال.
ليست صدفة ان تتعالى اصوات الشعب اللبناني باستعادة الانتداب الفرنسي اثناء زيارة الرئيس ماكرون لبيروت مؤخراً بعد الفشل الذريع الذي مُنيت به حكومات لبنان لعقود طويلة من “الاستقلال”, وما حال العراق من ذلك ببعيد. إنها ليست دعوة لاعادة انتداب او ترحيب بمحتل, بقدر ماهي دعوة لاعادة النظر بمفهوم الوطنية وربطها بالحياة الحرة للمواطن قبل جنسية الحاكم, وهي ليس بدعة مستحدثة بل بديهية انسانية اُشير اليها قديماً في نصوص اسلامية: “إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ ۖ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ۚ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا”,وفي حديث ينسب لعلي ابن ابي طالب “الْغِنَى فِي الْغُرْبَةِ وَطَنٌ، وَالْفَقْرُ فِي الْوَطَنِ غُرْبَةٌ”.
الوطنية هي إشباع جائع ,إيواء مشرد, كفالة يتيم, شفاء عليل, إغاثة ملهوف, نصر مظلوم, احقاق حق, ازهاق باطل قبل ان تكون يوم عطلة ترفع فيه الاعلام وتلقى فيه الخطب. فرغيف الخبز اقدس من العلم في عين الجائع, ومن يعيش مشرداً في بلده لن يهتم لشكل الحكم ان كان وطنياً او اجنبياً, ومن ضاقت عليه بلاده بالجور فلن يتوانى عن طلب اللجوء لدى دول “استعمارية” تُحفظ بها كرامته, هل سنلتفت الى كل تلك التفاصيل ام سيبقى شغلنا الشاغل تحديد يومنا ونشيدنا وعلمنا الوطني؟