ربما يجد الكثير من القراء صعوبة في فهم ما أقصد بهذا العنوان الغريب نوعاً ما، لكنها بداية جيدة للغوص في أعماق ظاهرة الفساد المؤطرة بالأمثال والتي إنتشرت في العراق على مدى عشرات السنين الماضية .
للحقيقة والتاريخ،لا يمكن ربط ظاهرة الفساد مباشرةً بما حدث بعد عام 2003، الظاهرة لها بدايات أبعد من ذلك، أولى بذرات الفساد بدأت بعد منتصف الثمانينيات وبداية التسعينيات من القرن الماضي عندما بدأنا نسمع هذا المثل المعيب (أُكُلْ وَوَصْوِصْ) وامثال أخرى اقدم من المثل السابق (لو سابوح لو ناطوح)، المثل الاول عبارة عن عملية تخويف و تدجين كانت بداياتها سياسية،أي إنك ممكن أنْ تعيش وتأكل وتتمتع بحياتك أيام حكم صدام حسين بدون أنْ تقترب السياسة، وهذا ما إعتاد عليهِ أغلبية العراقيون في زمن الثمانينيات وربما التسعينيات.
الظاهرة اتسعت عند انتقال مقولة (أُكُلْ وَ وَصْوًصْ) إلى مجالات أخرى، متجاوزةً عالم السياسة، لتدخل عالم الاقتصاد والمعاملات بين المواطنين وبين موظفي دوائر ومؤسسات الدولة كافة، بدأ هذا الاتساع مع بداية العقوبات المفروضة على العراق عام 1990 إلى غاية 2003.
بسبب الفقر والعازة أُضْطُرَ المواطن والموظف إلى تقبل نمط جديد من التعامل مع الدوائر والمؤسسات الحكومية، يتمثل يغض النظر عن التجاوزات القانونية، مثل دفع وتقبل الرِشى من أجل العيش ومن أجل إكمال المعاملات اليومية التي تخص عملاً ما في القطاع الخاص والعام .
الأمثلة التي تبادرت إلى ذهني كثيرة، لكني سأتطرق إلى نوعين من الفساد أحدهما عسكري والآخر مدني، الأول في فترة التسعينيات من القرن الماضي وما بعدها الى غاية2003، عندما كانت مديرية الإحصاء والتعبئة تستدعي المواليد المستحقة الى خدمة الإحتياط بين فترة وفترة، وهذا يعني أنْ يترك المشمولين أعمالهم في ذلك الوقت الصعب ويلتحقوا بوحدة عسكرية ما لمدة شهرين أو ثلاثة.
للأسف كان الكثير يضطر الى دفع الرِشى للضباط من إجلِ عدم الإلتحاق على أمل إستلام كتب التسريح بنهاية المدة المحددة، ولا يزال أحد الامثلة حاضراً في ذهني، عندما تم إستدعائنا لتأدية خدمة الإحتياط في مستشفى حماد شهاب العسكري سابقاً عام 2001، لاحظ كيف تم التعامل معنا عندما جاء أحد الضباط وكان برتبة عقيد ركن وقال بالحرف الواحد من لديهِ إستعداد للدفع المسبق مقابل عدم الدوام؟ استجاب للطلب تقريباً أكثر من نصف الموجود، وحُددَ اليوم الذي يجلب فيه (المقسوم).
وفي اليوم المحدد، تم جمعنا في إحدى القاعات، تفاجئنا بمدير المستشفى الذي كان برتبة (لواء طبيب) ينبهنا ويقول بالحرف الواحد لا تدفعوا أية رشى لأي شخص مهما كان مركزه، لأنكم بالأساس لا نحتاج تواجدكم بإستمرار، وسنظلب منكم الحضور مرتين خلال فترة خدمة الاحتياط .
إلى حد الآن الكلام جميل والصورة اختلفت، تراجع معظم الراغبون بالدفع وإحتفظوا بإموالهم، لكن في نفس اليوم ظهرَ من يُحذرنا من عدم الدفع، يبدو أنَّ كلام اللواء الطبيب لم يعار لهُ أهمية من قبل الضابط ولم يردعهُ وأرسلَ من يتوعد ويحذر الجميع بنبرة غضب ومحاسبة أي جندي لا يدفع.
نوع أخر بدأ ينتشر من داخل المؤسسات الحكومية المدنية، بعد عام 1990 أتسعت ظاهرة عدم إكمال أية معاملة، مالم تجلب الغذاء أوالريوك للموظفين بالنسبة للمعاملات البسيطة، لكن المعاملات القوية يختلف التعامل معها وبدأت تظهر الرِشى المادية الكبيرة لقاء أية معاملة مثل (تحويل دار أو استحصال موافقة لفتح ورشة أو معمل أو شركة) أو ما شابه، وانتهى بذلك زمن كان يُسمعْ فيهِ مقولة (لو ناطوح لو سابوح) وهو نوع الرشوة التي كانت سائدة في زمن الثمانينيات، وهو تقريباً كان اقصى معدلات الرِشى في ذلك الوقت.
ومع الوقت لم يعد يتعامل به أحد وبقيَ في حدوده الضيقة، كونهُ لا يفي بالغرض، والحاجة أُم الاختراع كَمّا يقال، ظهر مثلٌ آخر يتلائم مع حجم الظاهرة والمعنون به مقالنا فوق (أُكُلِ ووَصْوِصْ )، الضابط والموظف أصبحا مضطرين إلى تلقي الرِشى من أجل العيش بسبب انعدام قيمة رواتبهم والمواطن مضطر لمجاراتهم خوفاً من توقف مصالحهِ وانقطاع رزقهِ.
جاء عام 2003 وتوقع الكثير أنْ تنتهي العقوبات ويرفع الحصار الاقتصادي المفروض على العراق، ويُستأنف تصدير النفط العراقي ويُلغى حظر الطيران المدني وغيرها من النشاطات السياسية والاقتصادية المُعطّلة بسبب العقوبات الصادرة عن مجلس الامن.
ما حدث كان صدمة وسلوك لا يتماشى مع المنطق والأخلاق، وبدلاً من أنْ نسمع بإمثال وشعارات جديدة تعكس حالة واعدة للبلد،نظراً لزوال أسباب الحصار المفروض على العراق، يتفاجأ الجميع بأن مقولة (أُكُلِ ووَصْوِصْ) مازالت تعمل وبوتيرة أقوى، مع تمديد صلاحية عملها الى سنوات جديدة.
حقيقةً، الامثال العراقية كثيرة التي وَصفتْ ورَسمتْ بألفاضها الحَسِنة الكثير من الظواهر والوقائع التي مر بها المجتمع العراقي، لكنها غالباً ما تحمل أثر سلبي على المواطن، الذي مازال الكثير يعتقد إنَّ مثل هذه الأمثال قِيلتْ من قبل حكماء أو أولياء صالحين، وإنَّها يمكن أنْ تكون بمثابة فتوى أو فسحة للقيام بإعمال محرمة شرعاً وقانوناً، لكن الحقيقة إنَّها جاءت أو قِيلت من قبل أشخاص عاديين يمتلكون قدرة وسرعة بديهة على الرد واستحسان الألفاظ واستخدمت في مناسبات معينة، ولا يمكن لها أنْ تأخذ مجالاً أوسع، وكما يقال (الامثال تضرب ولا تقاس)، هي جزء من التراث والتقاليد التي يتطلب الكثير منها الى التمحيص والشرح للتقليل من تأثيرها السلبي على المجتمع.