صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

كاظم الساهر يعيد مجد أغنية الأمهات

كان يمكن لهذه الأغنية أن تكون قبل عقدين أو ثلاثة، كنت أشعر أنها هاجس الفنان كاظم الساهر بعلاقته مع أمه أو “نورية العظيمة” كما يحب أن يسميها مثل كل القلوب التي تخفق أمام الأمهات، فكيف بقلب الساهر الذي أوجد كل هذا الوله في غنائه!

كان يترقب النص منذ عقود وهو يستعيد الشحن العاطفي الذي تركه عميد الغناء العراقي عباس جميل في ستينات القرن الماضي بلحنه لقصيدة عباس العزاوي لزهور حسين “غريبة من بعد عينك يايمه” وحتى عندما كتب كريم العراقي قصيدة “يا أمي” لم يشأ سعدون جابر أن يتركها إلا بين أوتار عباس جميل كي يلحنها.

لا أشك أن كاظم وعلى مدار سنوات، قلّب مجموعة غير قليلة من النصوص التي تتعلق بالأمهات وتردد في تلحينها وكأنه كان يترقب وحي هذه القصيدة!

واليوم يصنع نصه بذائقته الشعرية مثلما يصنع جملته الموسيقية وهو يعيد الأهمية لغناء الأمهات، في لحن على مقام “الكرد” المتدفق بالمشاعر التي تمس شغاف القلوب، لذلك تركز عليه غالبية التلاوات القرآنية.

اختار الساهر بذكاء فني أن يُشرك معه الصوت الطفولي للفنانة المغربية جنات. وكأنه يقول لا تكتمل الأغنية من دون أن تكن لأمي وأمها مثل الملايين الذين يذوبون ولها بالتغني معه ومع أمهاتهم.

ينطلق الصوت المشترك بين كاظم وجنات في أغنية “أمي” التي أطلقها الساهر قبل أيام، بتساؤل لفرط حنينه يكاد يذوب فيه صوت جنات وكأنه يهمس في أذن الساهر كي يحفزه على إجابة غنائية ملهمة: من مثلها أمي أنا/ فديتها روح وقلب ذهب/من بعد ربي حبها/ إلى فؤادي الأقرب.

كان مذهب التغني في هذا المقطع محض صناعة موسيقية ساهرية، وبوسعي القول إن الأسماع ستعود إليه بعد عقود، كما نعود اليوم إلى لحني عميد الغناء العراقي لصوتي زهور حسين وسعدون جابر.

ينطلق بعدها حشد الكمانات بنفس لمسات وجمل الساهر اللحنية التي اعتادت عليها الأسماع وتنشدُّ إليها وتتذكرها كلما عزف وتر! وهذه المرة مع صوته من دون صوت جنات، صوت الساهر الذاهب إلى أبعد أفق في التغني بروح المفردة وليس آليتها: شمعة عمري الملهمة/ رغم الليالي المظلمة والسنوات المؤلمة/ راضية مبتسمة/.

على الرغم من بساطة وانسيابية النص إلا أن الجملة الموسيقية وأداء الساهر أضفيا على هذا المقطع لمسة مختلفة تجعل كل من يستمع إليه يستعيد أمه أمام ناظره.

يعاود صوت جنات من جديد ويدخل مع: ظلت معي حبيبة/صديقة طبيبة/ بصبرها عجيبة/ لا تشتكي لا تعتب.

حتى يشترك الصوتان كاظم وجنات بنوع من المناجاة والولاء الذي لا ينتهي للأمهات: يا أمي نظر عيني/ نظر روحي. فضّلَ الساهر هنا مغادرة النص الفصيح بأداء يقترب من اللهجة الدارجة كعادته في تبسيط لحن القصيدة، بتعبيرية باتت ماركة مسجلة باسم الساهر.

وهنا يصل الاحتفاء بالأم عندما يُدخل اللحن الآلات الهوائية في موسيقى طالما أحببناها في ألحان وغناء كاظم، لكنه هذه المرة يغني لأمه ونحن الذين نستمع كي نغني معه لأمهاتنا: أمي السلام والوطن/ أمي الأرّقُ والأحن/ جلستها، ضحكتها، والله ما لها ثمن/ عمري لها روحي لها تطلب أو لا تطلب/ فهذه أمي ومن أحق منها أقرب/ ومن سواها حلوتي لها الجمال ينسب.

بعدها تصل الأغنية إلى الدعاء بصوت جنات في وفاء لا ينتهي للأمهات: يا ربي طوّل عمرها/ أسعِد وعوّض صبرها.

أما كاظم فيُعبّر عن صوته بالمقطع الأخير وكأنه ينتزع روحه في الأداء معه: أمي ابتسامات الزمن/ حمل المواجع والشجن/ فهذه أمي ومن أحن منها أطيب.

هكذا يعيد الساهر شرف الأغنية الكامن في إخلاصها لجوهرها بـ“أمي” وكأنه يذّكر من جديد بأهمية الأمهات في تعريف إنسانيتنا.

أقرأ أيضا