1- مقدمة
ما أن اعلنت السلطات عن بدء تنفيذ اجراءات حظر التجوال للحد من تفشي جائحة كورونا، والذي رافقه نصائح وتعليمات من مراجع دينية ومجتمعية مختلفة كلها تحذر من الاختلاط وتحثُّ على التباعد الاجتماعي، حتى بدأنا نشهد تحركات عديدة من قبل أفراد وجماعات لتقديم المساعدة للمحتاجين والعوائل المتعففة. وبدلا من تنفيذ التعليمات والالتزام بها، هبَّ عدد من الميسورين لعمل سلّات غذائية تتضمن عددا من المواد الغذائية، حُملت بسيارات واتجهت الى مناطق مختلفة، وفي الشوارع العامة، ومع التصوير والتوثيق، ما دفع عدد من العائلات الى التجمهر بانتظار وصول تلك السيارات للحصول على الهبات والعطايا. حصل هذا في محافظات عديدة. حصل ذلك ويحصل في مشاهد تدعو الى الأسف، فقد حصل اختلاط على نطاق واسع، وكُسر حظر التجوال بدعوى توزيع سلات الغذاء.
2- اطعام الطعام
يستند اطعام الطعام عند العراقيين الى قواعد راسخة في حب عمل الخير، ومساعدة المحتاجين، وحببت تلك القواعد الى قلوب الناس بذلَ الطعام للمحتاجين اليه في أحلك الظروف. ويحتل تقديم الطعام عند العراقيين قلبَ كلّ مناسبة، من فرح وحزن. فاحتفالات الأعراس مثلا هي بالأساس تقديم طعام، ومجالس العزاء التي يقيمها أهلُ المتوفى هي ولائم، وسابقا كان المعزّون يحملون الى مأتم جارهم أو صديقهم أو قريبهم كيساً من الرز، أو صفيحة من زيت الطعام أو خروفا، قبل أن يتم استبدال ذلك بمبلغ من المال. وكثيرة هي المناسبات التي تتكرر فيها تلك الممارسات. العامل المشترك في كل ذلك هو الأفراط والمبالغة. فما يقدم من طعام عادة يفوق ما يحتاج اليه المدعوون والآكلون والمحتاجون بأضعاف مضاعفة.
والكرم صفة محمودة أصيلة في مجتمعنا، وهو يعود لحقب موغلة في القدم، حتى ان بعض الباحثين الأجانب ردّوا ذلك الى خصائص البيئة. فقد اعتبروا ان اكرام الضيف هو بمثابة عقد اجتماعي بين الناس يعود لحاجة الأفراد للتنقل في بيئة قاحلة. فلابد من أن يبيتوا عند من تقع مساكنهم على الطريق. اذ لا بديل عن ذلك سوى الموت جوعا أو عطشا أو فريسة للضواري. وحيث أن الجميع يحتاج للتنقل، وحيث ان البيئة لا تقدم الدعم اللازم، وحيث انه يتعذر على المسافرين حمل ما يحتاجون اليه من طعام وشراب يكفيهم لأيام أو أسابيع، فلا سبيل آخر سوى اشاعة الكرم بينهم وجعله فضيلة لا تعلو عليها فضيلة.
3- جوانب سلبية
ومع ان هذا الكرم جميل ومميَّز، لكنه ينطوي على جوانب سلبية. تتمثل أولاها بالتبذير. والثانية في الرياء وحب الظهور بمظهر الكريم أو الغني المقتدر أو صاحب النعمة القديمة المتأصلة في جذور أسلافه. أما الثالثة فهي أنه ينطوي على تعميق الفوارق الطبيقة بين فئات المجتمع. وقد يشجّع الكرم المفرط على الأتكال والكسل في رابع صفة سلبية له. فاذا كان الطعام متوفرا طيلة أيام السنة بمثل هذه الوفرة فلماذا يجهد الانسان نفسه بالعمل والكدح. أما خامسة تلك الجوانب السلبية فهو أن بذل الطعام صار بديلا عن الابداع والتفكير في ما يجب عمله في الظروف والمناسبات المختلفة. فاضحى تقليدا فجّا يتساوى به الناس جميعا على اختلافهم. والأخطر بالأمر ان هذا التقليد قد سدّ أمام الناس الطريقَ لابتكار وسائل جديدة لتقديم العون وبما تتطلبه الحالات المختلفة. رغم ان المأكل والمشرب يحتل مكانا أساسيا في سلّم الحاجات الانسانية المتدرجة كما وصفها ماسلو بهرمه الشهير، الا أنها ليست الحاجة الوحيدة. فكل حاجة تنتفي عند اشباعها لتظهر حاجات ملحة أخرى . وبموجب هذا الفهم، وحيث ان الكرم هو العطاء والبذل لاشباع حاجات الناس، وحيث ان حاجات الناس مختلفة ، وجب أن يكون العطاء والكرم مختلفا تبعا لاختلاف الحاجات.
لذلك فصفة الكريم اذن تنطبق على من يوفر المأوى لمن يحتاج اليه، ومن يوفر المأكل للجياع، وعلى من يوفر العلاج للمرضى، وعلى من يمنح الفرح لقلوب هدّها الأسى، وعلى من يوفر الأمن للخائفين . اذن فنحن أمام صنفين من الكرم، كرم تقليدي جامد يفتقر للحس والديناميكية، وكرم مرهف الحس جميل متحرك ومبدع.
أما في زمن الكورونا فالعيب الأخطرللكرم التقليدي الجامد هو انه يتسبب بكارثة. فالتدافع والاختلاط، والتزاحم قد يكون سببا في انتقال العدوى بشكل واسع. وبهذا يكون المتصدق قد سبب أذى لمن تصدَّق اليهم. وبدل أن يكونوا مستفيدين من أحسانه صاروا متضررين من غفلته.
4- المحتاجون فعلا
هل هناك محتاجون لسلات الغذاء حقا؟ من المؤكد أن مثل هذه الشريحة موجودة بالفعل. ومن المؤكد أن عدد المحتاجين سيزداد مع طول فترة الحظر. لذلك فالاندفاع بتوزيع المواد الغذائية اليوم وبهذا الشكل الفوضوي قد يُعدُّ أمرا سابقا لأوانه. فالجوع بمعناه المطلق لازال بعيدا. لماذا لا ينتظر المحسنون قليلا لتكون عطاياهم في محلها وعند الحاجة الفعلية اليها؟ ولماذا لا يقوم المحسنون باستهداف المحتاجين الى المساعدة فعلا؟ لماذا لا يقوموا ببذل قليل من الجهد لاكتشاف أماكن تواجد هؤلاء المحتاجين فعلا؟ ومعرفة ما الذي يحتاجون اليه تحديدا. فقد يكون بعضهم بحاجة الى حليب أطفال، وبعضهم يكون بحاجة الى علبة دواء، أكثر من حاجته الى كمية من الرز والزيت ومعجون الطماطة. وقد يكون بعضهم بحاجة الى المعقمات والكمّامات، وقد يكون بعضهم بحاجة الى ملصق أرشادي يبين لهم كيف عليهم أن يحتاطوا، وقد يكون أخرون بحاجة الى درس عملي يشرح لهم ما عليهم فعله حين يسعلون، أو ترتفع درجة حرارة أجسامهم.
5- كرم من نوع آخر
في مقابل ذلك فان هناك جهودا رائعة يقدمها الأطباء والممرضون والممرضات والمسعفون وسواق سيارات الأسعاف والقوات الأمنية، وهناك كرم عظيم يقدمه المهندسون والباحثون والمصنّعون في كل مدن العراق. وهنا لابد من ذكر أوائل الذين استجابوا لهذا التحدي من شباب البصرة، اذ أسرعوا بتشكيل فرق عمل متخصصة، وانتقلوا من مرحلة الابتكار والتخطيط الى مرحلة الانتاج في زمن قصير. فقد تنادوا وباشروا بتشكيل فرق متخصصة، فريق عمل صناعة قناع الوجه الواقي، فريق عمل صناعة جهاز التنفس، فريق عمل صناعة مواد التعفير، فريق صيانة اجهزة التنفس، والأهم هو فريق عمل صناعة الوسط الناقل المستخدم في اختبارات الكورونا. هذا النوع من الكرم والبذل هو ما نحتاج اليه اليوم أكثر من أي وقت مضى. مؤكد أن مثل هذه الفرق ومثل هذه الجهود موجودة على امتداد مساحة الوطن، وانها ستظهر للعيان من خلال ما ستقدمه للناس في قابل الأيام.
6- التنظيم والابتكار
نحن بحاجة اليوم الى التجديد في الكرم . والتجديد لابد أن يركز على أمرين مهمين . الأمر الأول هو الانتقال من العشوائية والارتجالية والتشظي في تقديم العون للمحتاجين الى عمل مخطط له بعناية، عمل علمي هادف وحريص، عمل يضع الموارد المتاحة في مكانها الصحيح، عمل يقدم العون للمحتاجين اليه كما ونوعا بشكل دقيق. لابد من تنظيم ممارسات الدعم لتكون ذات جدوى، ولتكون قليلة المخاطر.
الأمر الثاني هو التحول من التقليد وتكرار ممارسات تقديم الطعام، والطعام فقط الى مبادرات خلّاقة. مبادرات تكون دروسا نيّرة في الكرم، دروسا يحتذى بها، ولتكون عاملا يساعد العوائل التي تعتمد في قوتها على أجرها اليومي على الالتزام بتطبيق الحظر حفاظا على صحة وسلامة الجميع.