مقدمة
نجحت الصين على ما يبدو في احتواء خطر فايروس كورونا، وبتقدير الكثيرين فان ثلاثة عوامل تضافرت معا في الصين مكّنت الدولة من تحقيق هذا النجاح لحد الآن على الأقل، ففي الصين حكومة مركزية واحدة قوية تمتلك جيشا من الموظفين المؤتمرين بأمرها.
هذه الحكومة تمتلك وحدها الموارد الضخمة وتستطيع توجيهها بلمح البصر وحشدها لتطبيق الخطط الموضوعة لمواجهة الأزمات، وفي الصين شعب تربى منذ 70 سنة على الانصياع لأوامر الحكومة المركزية وتنفيذها بكل دقة.
وفي الصين ثمة ثقافة كامنة موجودة حتى قبل تأسيس النظام الشمولي، ثقافة مبنية على حب العمل والتنظيم والاخلاص للوطن والشعب. ثقافة لم يغب عنها مأساة قرن الإذلال .وفي الصين نشأت ثورة تكنولوجية هائلة مدفوعة ومستفيدة من العاملين السابقين أعلاه، فوظفت امكانات الانترنت وتقنيات السيطرة والتنظيم الالكتروني لخدمة قوة النظام الشمولي، في مقابل ذلك نرى ان الدول الديمقراطية تبذل قصارى جهدها لتحقيق التباعد الاجتماعي. فالأفراد الذين نشأوا على الحرية والديمقراطية والفردية يصعب عليهم الالتزام بأوامر صارمة حتى عندما يتعلق الأمر بحياتهم. ويبدو ان أنظمتها الصحية المتقدمة على مثيلاتها في الدول الأخرى أضحت عاجزة عن تأمين متطلبات الرعاية للأعداد المتزايدة من المصابين. ولجأت تلك الدول الى توظيف أقوى وآخر مؤسساتها التي تتمتع بالانضباط وهي الشرطة والجيش. فمُنحت الشرطة صلاحيات لم تكن تتوفر لها في بريطانيا، ونزلت مدرعات الجيش الى الشوارع في نيويورك لانفاذ القانون.
أما في دول أخرى فقد تراوحت الحلول والجهود، النجاحات والفشل بين هذا وذاك. ويبدو ان الكثير من الحكومات تقف عاجزة، هذا ما يتم تداوله، فهل هذا كل ما في الأمر حقا؟
خيار “إبق في البيت”
(إبق في البيت) أي ستراتيجية التباعد الاجتماعي التي برزت أهميتها في مواجهة هذه الجائحة هي الستراتيجية الوحيدة القادرة على الحد من الانتشار الواسع للفايروس، على الأقل حتى الآن كما تبين، وبالتالي السيطرة على تدفق المصابين باتجاه المشافي لتلقي الرعاية الطبية. ذلك لان قدرة المشافي لاستيعاب عدد من المرضى محدودة، وهي لم تصمم أصلا لاستيعاب مثل هذه الأعداد حتى في الدول المتقدمة في مجال الرعاية الصحية. وحين نذكر القدرة الاستيعابية للمشافي، فان ذلك يعني عدد الأسرّة، عدد الأطباء، عدد الممرضين، عدد أجهزة التنفس الاصطناعي، الى غير ذلك من المعايير.
متطلبات نجاح الخيار
(إبق في البيت) هذه الاستراتیجیة تستدعي الى الذهن عددا من المتطلبات من أجل تحقیقها، تلك هي: توفر الخدمات وعلى رأسها الخدمات الصحية والسكن، وقوة الاقتصاد بما في ذلك القدرة على توفير المواد الأساسية اللازمة للحياة، والوعي المجتمعي، وقوة المؤسسات الأمنية ومدى ثقة المواطنين بقدرتها على تنفيذ هذه الستراتيجية.
سأركز في هذا المقال على قضية السكن باعتباران هذه القضية تقع في قلب ستراتيجية البقاء في البيت، ولأنها الضمان الوحيد لتخفيف الضغط على المشافي.
السكن
(إبق بالبيت)، ستراتيجية تعني في ما تعنيه أن لك بيتا، وهذا البيت يوفر لك أبسط المعايير السكنية، وهذا يعني ان لديك مساحة معينة مقاسة بعدد من الأمتار المربعة لكل فرد. أو أن يكون لك غرفة قابلة للسكن، أو انك تتشارك مع فرد آخر نفس الغرفة ضمن معايير مقبولة. وعندما تطلب الدولة من مواطنيها البقاء في البيت فانها تعلم وهم يعلمون أن ثمة جهود سابقة قد بذلت، وموارد سابقة قد كُرست، وخطط سابقة قد وُضعت ونُفذت من أجل أن يكون لكل أسرة وحدة سكنية، سكن لائق تلزمها للمبيت به، فهو بيت، أو للسكن فيه فهو مسكن. سواء كان بيتا أو شقة. هذا المسكن مخدوم بكل ما يتطلبه الانسان من خدمات، كالماء والكهرباء والمجاري وغيرها. هذا المسكن تتوفر فيه الشروط الصحية المطلوبة من تهوية وانارة طبيعيتين، واطلالة على الفضاء المفتوح.
عندما طلبت حكومة الصين من مواطنيها، بل ربما يجدر القول عندما أمرتهم بالبقاء في منازلهم، فهي تعلم، وهم يعلمون أنها كانت قد وفرت لهم، أو على الأقل للسواد الأعظم منهم مساكنا لائقة ببقائهم فيها.
وعندما تطلب حكومات غربية من مواطنيها البقاء في منازلهم فانها على يقين وهم أيضا يعرفون أن لهم منازل، وعندما أقول ان حكومة الصين وحكومات أوربا تعلم، فانني أشير الى قواعد البيانات التي أُعدت بالتفصيل الممل والتي تضم عدد الغرف ومساحاتها ومواقعها وسنة تشييدها وكل ما يلزم من المعلومات التي يمكن الوصول اليها وتحديثها والاطلاع عليها ومعرفة نواحي الضعف والقوة فيها باستخدام أحدث البرامج الألكترونية، لأن عملا متواصلا وعقلانيا من التخطيط والتصميم والتنفيذ وحسابات الكلف كان قد سبق ظهور هذه الجائحة، ولأن مؤسسات قائمة منذ زمن بعيد كان شغلها الشاغل وواجبها الحتمي السهر على تأمين السكن، وأن جهودا طالما تضافرت من القطاع العام والخاص وعلى كل المستويات ليكون ذلك ممكنا ومتوفرا.
(إبق بالبيت) ليس شعارا أجوف، بل هو ستراتيجية عميقة تعتمد على معايير، وخطط وموارد.
في العراق أيضا رُفع ذلك الشعار، فلا بديل عنه من أجل كبح جماح تفشي المرض، ولكن لننظر أعمق ولنرِ كيف يمكن لمواطنينا البقاء في منازلهم. وهل تتوفر للجميع منازل حقا يبقون فيها؟
الواقع السكني في العراق
من المعلوم أن سكان العراق في الوقت الحاضر يقترب من بلوغ الأربعين مليونا. وأن نسبة تقترب من ربع هذا العدد يسكنون في العاصمة، وأن نسبة النمو السكاني تبلغ 3.2% في السنة، أي أن حجم السكان يتضاعف كل عشر سنوات تقريبا.
ومن المعلوم ان الحاجة الاسكانية أو العجز السكني يبلغ أرقاما مخيفة في العراق** فقد أشار برنامج الأسكان العام في العراق الى وجود عجز يبلغ نحو أربعة ملايين وحدة سكنية في العراق يجب انشاؤها بين عامي 1980-2000. ومن الواضح أنه لم يتم تنفيذ مشاريع اسكانية مهمة منذ ذلك التاريخ. ففي الوقت الذي تتفاقم مشكلة العجز السكني، فان التخصيصات المالية التي تخصص للسكن تتراجع، فقد كانت 5.5% من الميزانية عام 2004، لكنها انحدرت الى 1% فقط في عام 2009 1.
نحن أمام قضية متراكمة، فعدد الأسر في تزايد، ومقدار الأهتمام لحل المشكلة يتناقص، ومقدار الطلب على الوحدات السكنية يتزايد، ويرتفع معه سعر الوحدة السكنية، أو سعر المتر المربع الواحد من الأرض أو من البناء القابل للسكن. ومع ضعف الأجهزة الرقابية، ومع حالة الانفلات، فان ذلك كله يتحول الى ظواهر مدمرة . فقد ظهرت العشوائيات بشكل مخيف.بعض الدراسات تشير الى ان 7.7% من سكان العراق يسكنون في عشوائيات 1. وعمد أصحاب المساكن الى هدم مساكنهم واعادة افرازها بشكل غير قانوني، فظهرت وحدات سكنية متناهية في الصغر تفتقر الى أبسط الشروط الصحية. وتم التجاوز على البساتين في أغلب مدن العراق . فأُطيح بالأشجار وبُنيت بدلها مساكن عشوائية لا تتوفر فيها ولن تتوفر لها الخدمات حتى في المستقبل لأن نسيجها وعرض شوارعها لا يسمح بذلك.
في المعيار العالمي فان كل أسرة لابد ان يكون لها وحدة سكنية، أما في العراق فان الكثير من الوحدات السكنية تسكن فيها أسرتان أو أكثر. واذا كان المعيار العالمي لعدد الأشخاص في الغرفة الواحدة هو 1-1.25 شخص لكل غرفة ففي العراق يبلغ هذا المقياس 2.5 شخص لكل غرفة.
الوحدات السكنية الموجودة تحتاج الى صيانة، وبعكسه فهي تواجه الاندثار مما يزيد من حجم العجز السكني سنويا. واذا ما أخذنا بنظر الاعتبار الفقدان الذي تعرض له الرصيد السكني في العراق من جراء الحرب على داعش، فاننا أمام أرقام مذهلة قد تصل الى خمسة ملايين وحدة سكنية.
إذا ما افترضنا اننا لابد من أن نقوم بانشاء نصف مليون وحدة سكنية في السنة الواحدة، وعلى مدى عشر سنوات، فهذا يعني أننا لابد أن ننجز وحدة سكنية واحدة كل دقيقة! أما ما هي الموارد المادية والمالية والبشرية والصناعية لانجاز ذلك فهذا سؤال يصعب الاجابة عنه. اذن فنحن أمام أكتظاظ سكني، وعشوائيات، ومخيمات نزوح، وبيئات متدهورة . هذه هي البيئة السكنية لنسبة كبيرة من سكان العراق.
خاتمة
هل ستنجح هذه الستراتيجية عندنا؟ نتمنى ذلك، ونحث الذين نعرفهم ونتواصل معهم بالحاح ورجاء على الالتزام بهذا الخيار الذي لا بديل عنه، ونحثهم أيضا على تحمل ظروف السكن أيضا، و التي لا تساعد كثيرا على تحمل مشقة هذا الخيار. مثلما نتوسل اليهم بضرورة الحرص على الالتزام بهذا الخيار رغم صعوبته لعدم توفر المتطلبات اللازمة له بالمستوى المرجو. من المؤكد أننا نواجه اليوم بعض النتائج المؤلمة التي ترتبت على اهمالنا وانشغالنا بأمور أخرى، وتناسينا لدور التخطيط السليم، وتغافلنا عن اتباع منهجا عقلانيا رصينا لبناء بيئات ملائمة للمجتمع. من الواضح اننا اليوم ندفع وسندفع غدا أثمانا باهضة جراء تبديد الثروات التي توفرت لدينا من مال، وموارد بشرية، وامكانات صناعية ووقت، وهوعنصر ثمين جدا قد بددناه هو الآخر بلا مبالاة . بددنا تلك الموارد ولم نكرسها بشكل صحيح لتلبية متطلبات الناس الآنية والمستقبلية. ومع هذا فلابد من الالتزام بهذا الخيار.
سوف تنتهي هذه المحنة لا محال. أما كيف ستنتهي فهذا يقع في علم الغيب. ولكن السؤال الذي لابد من طرحه هو : هل سنتعلم من هذا الدرس القاسي؟ وهل سنبدأ بالتفكير بشكل عقلاني بالمشاكل التي تواجه المجتمع من أجل حلها؟ هل سنبدأ بتنفيذ الخدمات الأساسية ومن ضمنها السكن ؟ هل سندرك أهمية توفير المتطلبات الاساسية للمجتمع والتي لابد من توفرها سواء في زمن الأزمات أم في زمن الظروف الطبيعية ؟ وهل سندرك أهمية استثمار الموارد ووضعها في مكانها الصحيح؟ أم أننا سنهمل ذلك مرة أخرى.
*الشكر لكل الأصدقاء الذين أشتركوا بمناقشة فكرة هذا المقال ومضمونه، وأبدوا ملاحظات قيمة حوله، أن بعض ما ذكروا قد تم تضمينه، وسيتم تغطية الملاحظات الأخرى بمقالات لاحقة. وهم كل من : ماجد أبراهيم عبد الوهاب، هناء أدور، وفيقة المؤمن، هيثم حنا، ندى القزويني، طالب غالي .
** عدا إقليم كوردستان العراق حيث تم بناء الكثير من الوحدات السكنية
1 علي نوري حسن، المأزق العراقي– المشاكل والحلول، محاضرة في المنتدى العراقي للنخب والكفاءات، اسطنبول، 24-25-أيلول 2019، ( انقر هنا )