لبنان: ترتيب الأولويات يحدد هوية الغالب والمغلوب

الدبلوماسية الأمريكية تستثمر في التداعيات، التي نتجت عن نجاح إسرائيل في تسديد الضربات الإنهاكية لحزب الله، بحيث غيرت خطابها الذي تشاركت به مع الدبلوماسية الفرنسية، من الدعوة لوقف إطلاق النار ووضع ترتيبات لتطبيق القرار الاممي 1701 الى اولوية تكييف الوضع اللبناني بملء الفرغ الرئاسي كعربون للمعالجات اللاحقة، بما يمكن من إقناع اسرائيل، لوقف إطلاق النار، وعودة النازحين على طرفي الحدود، اي قلب الاولويات، بما يؤدي لسحب البساط السياسي من تحت حزب الله، وتقليم أظفاره المادية والمعنوية، مقابل الحفاظ على البقية الباقية فيه، واخضاعها لاشتراطات استعادة الدولة اللبنانية لدورها المقرر لحالة الحرب والسلم، وبسط سلاح جيشها على كامل الأرض اللبنانية، طبعا بعد نزع سلاح الحزب وحل تشكيلاته العسكرية، من دون الدخول بحرب شاملة ممتدة، يكون لبنان كله ضحية لها، على اعتبار ان حزب الله، لم يعد اللاعب الاول في الحالة اللبنانية، وربما يُضطر لترك الملعب تماما، فحسب معلومات الامريكان والفرنسيين التي تعززها التسريبات الاسرائيلية ان الحزب قد فقد 70 بالمئة من قدراته الفعلية.

تعاطي نمطي في حرب لا نمطية! 

نمطَ حزب الله سجال مواجهاته المتراكمة مع إسرائيل، حتى اعتاده وأدمنه، بعد ان بنى دفاعته واسلوب عمله على اساس هذا التنميط، دون التوقف للولوج بالمتغيرات التي أفرزتها تحديات الحالة الإسرائيلية المستجدة، إجتماعيا وسياسيا وفكريا، ومن ثم مخاضاتها، وتحالفاتها الحزبية والحكومية المأزومة بتناقضات غائصة بين الصهيونية العلمانية والدينية وما بينهما، ما انعكس على عصب القرار، وردود افعاله، ووجد التحالف الحاكم ظالته بتصعيد التطرف والإنكار، كهروب للأمام من إستحقاق الواقع، والقفزعلى الانسدادات بالتجريف، وهذا ما يدفعه لإجتراح سلوك مختلف عن المعهود بخروجه عن المألوف في تعاطيه مع الخصوم المزمنين، وهو احد تجليات هذا المتغير، الذي يغلب عليه تنفذ المستوطنين “الجدد” على حساب تآكل نفوذ سكان المدن الكبرى والساحل، فالإعتقاد السائد بأن إسرائيل لا تحتمل المواجهات الممتدة والمتعددة في آن واحد أثبتت تجربة حربها مع غزة بطلانه، الحرب متواصلة وقد تجاوزت السنة، وكذا الحال بالنسبة لموضوع الاسرى، فالذي تعودنا عليه ان أسر الاسرائيليين هو طامة كبرى لإسرائيل ونقطة ضعفها التي لا حدود لعواقبها، والذي حصل، انها اليوم تماطل في إسترجاعهم، برغم اعدادهم والمخاطر على حياتهم، وربما تتمنى التخلص منهم، طبعا المقصود بإسرئيل هو الطيف السياسي السائد والحاكم، وليس ذوي الاسرى ومن يتعاطف معهم، وذات الشيء ينسحب على الفهم النمطي والسائد بأن إسرائيل لا تحتمل الخسائر الكبيرة في اعداد القتلى والمصابين مقاتلين او مدنيين، واقع الحال يشير الى انها تحتمل، وتجتهد في التعويض، فمن تجنيد الحريديم، الى طالبي اللجوء لديها، الى تجنيد المرتزقة، وربما سيأتي دور الشركات الامنية الدولية، اضافة الى إرساء مقدمات لتشكيل ميليشيات من المستوطنين، وهذا إتمار بن غفير وزير الامن القومي يعلن وعلى رؤوس الاشهاد توزيع اكثر من ربع مليون بندقية رشاشة للمستوطنين كي يشاركوا في إجهاض مقاومة الفلسطينيين، نزوع فاشي يعسكر المجتمع والدولة بهدف التوسع، ويستفحل كلما تعاظم دور تنظيمات المستوطنين في مؤسسات الدولة والجيش!

معركة عض الاصابع!

حزب الله يخوض معركة وجودية بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، فقد سقطت كل قواعد الاشتباك المتبادلة عرفيا بينه، وبين إسرائيل، وهو يتعرض لهجمة مضادة شاملة، بدأت بمحاولة قطع الرأس، بإستهداف اغلب قادته من الصف الاول والثاني، مع الإغتيال الانتقائي لقادة الصفوف النوعية في الحزب، ومنظومته العسكرية، إضافة الى مسلسل التفجير عن بعد، البيجر والهوكي توكي، التي اربكت الحزب وأشاعت البلبة بين صفوفه، ثم إغتيالات المسيرات، والقصف المدمر للضاحية، واغلب مناطق الحاضنة الشعبية في الجنوب والبقاع، الى إحراج الحزب بتأليب القوى اللبنانية المتضررة من سطوته على القرار اللبناني، والتخادم معها لتنفيذ فوري لمخرجات سياسية مستعصية، لابتزاز حالة الدفاع عن النفس والوجود التي يمر بها الحزب، فإنتخاب رئيس للبنان استحقاق مؤجل منذ سنتين، يصرعليه الفرقاء ومعهم الوسطاء لاختيار رئيس بعيدا عن إشتراطات حزب الله، قال الوسيط الامريكي آموس هوكشتاين لنجيب ميقاتي رئيس حكومة تصريف الاعمال في جولته الاخيرة ردا على إصرار ميقاتي على وقف اطلاق النار اولا ومن ثم التطرق للترتيبات الواجب تنفيذها لبنانيا واسرائيليا لسريان بنود قرار 1701 برعاية امريكية فرنسية : ان الاولوية ليست لإيقاف اطلاق النار، فقد كان هناك وقفا له، انما الاولوية يجب ان تكون لانتخاب رئيس جديد، وقد علق ميقاتي على كلام هوكشتاين قائلا: لابد من التوافق على رئيس لا يتحالف مع فريق ضد آخر.

يقينية حزب الله بالقدرة على تجاوز المحنة وبالتالي تحويلها الى ازمة تعيد انتاج واقع ما قبلها، من دون تنازلات أمر شبه مستحيل، لكن السؤال الذي يتمحور حوله التدافع، ماهية تلك التنازلات، خلف الكواليس تريد الدبلوماسية الامريكية تسمية جوزيف عون قائد الجيش رئيسا توافقيا قادرا على تنفيذ القرار 1701 ومقتضيات توابعه، وتريد ان يتمكن الجيش اللبناني من السيطرة على كامل الحدود، وان لا يكون هناك سلاحا منافسا خاصة من الخط الازرق حتى نهر الليطاني، وابرام اتفاقية لرسم الحدود البرية كما حصل بشأن الحدود البحرية، وتحقيق ذلك كله سيؤدي عمليا لفك ارتباط ساحات المقاومة، وتجريد حزب الله من مكانته التي حققها بالتراكم حتى اصبح صاحب الكلمة الاقوى في لبنان وببعض من هم حولها.

قلب المعادلة!

اجتماع عين التينة الذي جمع نبيه بري وميقاتي ووليد جنبلاط، وما قدمه ميقاتي من تصور عن نتائجه من إدانة للعدوان الاسرائيلي، والاشادة بالتضامن الوطني في قضية ايواء النازحين والمطالبة بالوقف الفوري لإطلاق النار للسير نحو تطبيق قرار 1701 وتعهد الحكومة اللبنانية بتطبيق مستلزماته بما فيها سيطرة الجيش على الجنوب، ودعوته للتوافق على انتخاب رئيس توافق يطمئن الجميع، مع تصاعد ردود حزب الله الصاروخية على هجمات اسرائيل في الجنوب والضاحية، وصمود مقاتليه على الحدود، ودخول مسيراته اجواء اسرائيل بدقة عالية كما في مسيرتي بنيامينا، وغرفة نوم نتنياهو، مع الحضور الايراني الموازي للحضور الغربي في بيروت كما في زيارة عباس عراقجي وزير الخارجية ومحمد باقر قاليباف رئيس مجلس الشورى الايراني، تؤكد سعي الحزب لإسترداد أنفاسه، وانخراطه الكلي للدفاع عن وجوده ومن كل جوارحه، فلا مخرج امامه غير الصمود، وكسب الوقت لإعادة ماتهدم من هياكل، وتفويت الفرصة على اسرائيل بالاستثمار في الفتنة بين اللبنانيين، وقلب السحر على الساحر، ومن دون التضحية بالعروة الوثقى، دعم غزة، ومنع الاستفراد بها، اما الباقي فكله قابل للتفاوض.

التمسك الصامد بأولوية وقف اطلاق النار على اي شيء آخر، في لبنان وغزة، سيحقق الكثير في مجرى الصراع، وسيفقد اسرائيل مبررات عدوانها، ويجعلها أكثر عرضة للتراجع عن تحقيق اهدافها المعلنة وغير المعلنة.

أقرأ أيضا