سؤال كثير ما نسمعه من أنفسنا أولاً، ومن حوالينا ثانياً. قبل أن نجيب على هذا السؤال، علينا أن نعترف إن معظم العراقيين خلال العقود الثلاثة الأخيرة حاكتهم دواخلهم في موضوع الهجرة، منهم من هاجر واستقر في بلاد الغربة، ومنهم من حاول ولم يوفق لأسباب متعددة، ومنهم هاجر ولم يتمكن العيش والاندماج في المجتمعات الغربية، ففضل العودة الى وطنه، وهناك من عاد وترك جزء من عائلته في الغربة، وتقسمت العوائل بين من فضل العودة وبين من استقر هناك متمسكاً بفرصة الهجرة.
على المستوى الشخصي كانت تعترضني فكرة الهجرة أو اللجوء الى الغرب، وكنت أسعى لها، لكني أضعف كثيراً عندما تقترب وتصبح واقعاً ملموساً، وأتهرب من تنفيذها. فكرة الابتعاد عن الوطن وإعادة الاستقرار Resettlement في بلد ثاني أو ثالث، على الرغم من مكاسبها المادية والنفسية، الا إنها مخيفة، إذا ما تعمقنا ونظرنا إلى تبعاتها المستقبلية، واكتشفنا الكثير من سلبياتها.
كثيراً ما تابعت الإحصاءات والدراسات التي كانت تستهدف المهاجرين واللاجئين من دول الشرق الأوسط الى دول غربية متقدمة. وبالأخص الدراسات التي كانت تركز على اندماج المهاجرين في مجتمعاتهم الجديدة، وضرورة تغيير اسلوب عيشهم في بلدهم الجديد. أكثر تلك الإحصاءات التي تثير القلق في نفوس المهاجرين، هي التي تشير الى أن الجيل الأول من المهاجرين، وهم أفراد العائلة المهاجرة، يحتفظون بهويتهم الدينية الاسلامية على أقل تقدير، لكن الجيل الثاني والثالث، يتحولون تلقائياً الى الديانة المسيحية، وهي غالباً ما تكون ديانة البلد المهاجر إليه. هنا ينصدم الكثير وينهون حلم مشروع هجرتهم ويفضلون البقاء والعيش في أوطانهم رغم قساوة العيش، محافظين على هويتهم الدينية لهم ولأجيالهم القادمة.
حالة أخرى واجهتها على المستوى الشخصي، عندما كنت أعمل منسقاً لممثلية وزارة التربية في اربيل مع المنظمات الأممية والدولية، كانت احدى المنظمات الألمانية ETTC المركز الأوربي للتكنلوجيا والتدريب لديها برنامج يدعم اللاجئين العائدين من أوربا الى العراق، وكانوا يتصلون بي بين فترة وأخرى عندما تعود بعض العوائل العراقية من أوربا الى العراق.
اتصلت بي امرأة عائدة من فرنسا، تريد المساعدة فيما يخص التحاق أطفالها في المدارس الحكومية العراقية، وحكت لي سبب عودتها من فرنسا، والذي كان مستغرباً مني في بداية الأمر، لكني استوعبت سبب عودتها بعد أن سمعت قصتها. تقول “ابني كان في عمر يستوجب دخوله الروضة في مدينة تولوز، اتصلت بي موظفة من مكتب الهجرة في المدينة، تطلب تسجيل ابني في الروضة، لكني أهملت الطلب ، بعد فترة قصيرة تكرر الاتصال وطلب التسجيل مع إنذار، وكما هو معلوم بعد الانذار اذا لم يتم التسجيل ودوام الطفل في الروضة سيسحبون الطفل منا لمدة زمنية تصل الى 16 عام كحد أقصى. عندها بادر زوجي بتسجيل الطفل لتفادي سحب الطفل منا. وبدأنا نفكر في العودة الى العراق، وهذا ما حدث، عُدنا بصمت هاربين منهم ومن مصير مجهول لطفلنا”.
وتضيف العائدة أيضاً ” سبب عدم رغبتنا تسجيل الطفل في الروضة كان بقاء الطفل عندهم ساعات طويلة يومياً، وسينقل بعفوية لهم ما يدور في البيت عن تصرفاتنا وسلوكنا اليومي معه، وإذا ما لاحظوا أية مخالفات داخل الأسرة ينقلها الطفل من خلال الكلام معه، فإنهم ربما يصدرون عقوبات تصل الى سحب الطفل منا.”
وأعطت لي عدة أمثلة حدثت مع لاجئين أفغان، تم سحب أطفالهم منهم وحرمانهم من رؤيتهم لأسباب نعتبرها نحن طبيعية عندنا كمجتمعات شرقية، وتسليم الأطفال الى مراكز إيواء تتم تربيتهم فيها حسب الثقافة المدنية الغربية، وفي نفس الوقت تمنع عائلة الطفل من رؤيته الى حين بلوغه. فيخرجون من مراكز الإيواء يافعين شاذين غرباء عن عوائلهم، لا يتم تقبلهم حتى من أهاليهم.
فكرة الهجرة واللجوء ينبغي معالجتها، وتقليل أعداد طالبيها لدى المنظمات الدولية، وخصوصا من منظمة الهجرة الدوليةIOM ومن المفوضية السامية لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة UNHCR. الحكومة العراقية للأسف غير مهتمة بهذا الجانب، وليس لديها خطط وبرامج للتقليل من آثار هجرة العراقيين نحو الغرب وفقدان الموارد البشرية العراقية. الدور يقع على منظمات المجتمع المدني في تثقيف المهاجرين واللاجئين بهذا الخصوص. العراق ينبغي أن يكون مكان جاذب للمهاجرين وليس مكاناً طارداً.