صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

لمناسبة أربعينيته.. «كوكب حمزة» أغنية وقضية

رحيل كوكب حمزة آخر الملحنين الكبار أصبح واقعاً وذكريات تبتعد مع الأيام وانشغالات الزمن، أنتهى وقت النعي وكتابات الأسى المتفاعلة مع خبر رحيل الملحن المبدع كوكب الذي شكلّ الاستثناء ليس في حياة الفن العراقي بكونه مبدعاً وملحناً صاغ الذات الجمالية للإحساس العراقي بأغاني تدون مشاعر الحب والغربة والرحيل لملايين العراقيين المغتربين (محطات)، بل الوطن الذي يسافر في حقيبة الروح مع كل سجين عراقي وهو ينشج (ياطيور الطايره مري لهلي )، كوكب كان يضيء عتمة الأحزان في قلائد النجوم التي يرسلها في ليل الوحدة والأحزان بقليل من الفرح ونوافذ حلم تكاد تتسع ليوم من حزن الاغتراب القسري عن الأهل والمحلة والمدينة والروح التي تركت هناك في طرقات الوطن والحكايا التي صار يشوه صورتها الزمان، ياللروح العظيمة والذائقة الموسيقية المتوهجة علي مساحات الوطن- الحلم.

اغتراب يهشم الذاكرة

خزين الوطن يشكل الرصيد الأثمن في بنك الذاكرة والروح ، بل هي المحفز للفنان وتربته التي ينمو ويتفاعل فيها حتى يطلع شجر المعاني، الوطن بمعطياته المتنوعة، المفرحة والمحزنة، المجدبة والمزهرة، تشكل قواعد تنمية الروح الإبداعية، ومتى ماكان الفنان متفاعلاً وجدانيا ومتماهياً مع الروح الأخرى لمنتجات الوطن وحيواته، يصبح نتاجه الإبداعي ممثلا جماليا وشعبيا لروح تلك الحيوات التي تبادله أسرارها في حصاد المشاعر وآليات تنظيمها وأشراقها.

تكشفت موهبة كوكب حمزة ورؤاه التجديدية في اللحنية العراقية في وقت مبكر من حياته الفنية، فكانت أغنيات يانجمة ،والگنطرة ، والطيور الطايرة، يمته تسافر ياگمر، ابنادم، ياهوى الناس، أغاني تؤثث الفرد العراقي بالمعاني الثرية وتعمق رومانسية الشعور الراقي بالانتماء للوطن أو الحبيب أو مايحلم به.

أغانٍ تنمي الإحساس بالحياة كونها قيمة وجدانية وعلائق حسية لاتندثر تحت معادلات الحياة المادية، ارتقاء يحفر في عمق الوجدان العراقي، تلك حصيلة أولية لمنتجات الجمال لهذا الكوكب الشفاف يرافق بذلك شعراء كانوا بذات الهم والحلم الكبير زهير الدجيلي وكاظم الركابي وآخرين يختار نصوصهم كوكب بعناية تترافق مع هواجسه ومدارات الدفق الموسيقي الذي يتكثف بالفكر الإنساني والجمالي الدال على ثيمة ثابتة في فكر كوكب اللحني، وهي تعبيرية الكشف عن مضامين الإنتماء للوطن والفكر اليساري الذي يحمله مع إيقاعات حياته الممتدة في أجواء العراق الشعبية ويصعد بها لارتفاعات أكثر رقياً.

اغتراب مبكر وهجرة قسرية عن الوطن- العشق ضرب كوكب وهو في ذرا تألقه الموسيقي الذي كان يحرض أبناء جيله اللحني على المنافسة بهدف خلق موسيقى عراقية بتراكيب جديدة وتنفتح على معاني تتخطى ماكان سائدا .

اغتراب كوكب جعله يخطو على أرض اسفنجية فكانت الرؤى الموسيقية تتوافد عليه أشبه بأطياف لايمكن مسكها كما كان يقف على أرض صلبة في وطنه الذي يعرف تفاصيل شعابه، ولمَنْ يغني ويكتب الشعر بعيدا عن بغداد والبصرة والموصل..!؟

من يستمع لكوكب في بلدان أوروبا وأنماط حياة غريبة استهلكت روحه قبل أن تصيب ملكته الموسيقية بوحشة الاغتراب واللامعنى، الاغتراب القسري الذي فرض على كوكب حمزة بحكم انتمائه للحزب الشيوعي ، هشم ذاكرته الموسيقية _ الإبداعية ومنع عنه أوكسجين الإبداع والتنقل بين عواصف الوطن البعيد، أليس العواصف هي التي تهتز لها روح الموسيقي فتهتز أوتار عوده لتحكي في ترددات موسيقية !؟

اللحن (الميلودي) يشبه الأصوات التي تنطلق من أعماق الروح فتمر بعقلية الملحن لتخرج بأنغام مموسقه بتركيب يحتوي ثيمة دالة حسياً ، تشكل جملة صوتية تعيد صياغة الجملة الشعرية بتنافذ حسي يعطي ملخص لهوية الملحن الجمالية، الفنان الذي يندك باللحنية العراقية، يعني أنه منغمر بمهرجان الأصوات ودلالاتها وحرثها في ذاته ، وأصوات الوطن قصائد تفقد روحها إذا خرجت من فضاء الوطن، كذلك تخسر روح الملحن تلك الأصوات التي تشكل رصيده السماع المعاني إذ يبعثها الوطن بالمباشر لذات الفنان الملحن، وهنا تتوقف الاستجابات الدلالية.

كوكب حمزة .. ترك إرثه الجمالي وحكايات المدن والمحلات والشوارع وراح إلى بيئة غريبة، ومحيط نفسي آخر مغاير تماماً ، لقد بدا إيقاع الحياة وأصواتها في أوروبا لاتشبه ماكان في العراق، غابت حكايا البصرة والناصرية والقاسم وبغداد انفصل كوكب عن مغذياته الروحية فانطفأ لحنياً .. وكلما مرت السنين لم يتبق من كوكب سوى صدى الأغاني القديمة لترافق ندماء الليل وأحزان الغرباء في استذكارات الوطن.

الذهنية الموسيقية التي تشتغل بالتأليف الموسيقي لا تتأثر بفكرة الاغتراب، لأنها ذهنية تركيبية توليفية لمجموعة أصوات للآلات الموسيقية، أي التعامل مع الآلة وحدود ادائها، الأمر الذي يدفع المؤلف الموسيقي في تنويع الميلودي بضوء تنوع أصوات الآلات وتوليفها، وتكرارها وفق تدرجات السلم الموسيقي، وهنا يبدو الاغتراب والتزود بمزيد من موسيقات العالم يعطي للمؤلف الموسيقي أفاق أوسع بخيال الكتابة للآلات، لهذا يتم تدريب المولف الموسيقي على سماع أنواع الموسيقى العالمية التي تؤلف بحسب الروح القومية لكنها تشترك بالقوالب الموسيقية مثل (الافتتاحية، السمفونية، القصيد السمفوني،..الخ)، كوكب حمزة بقي رهين الروح العراقية اللحنية برغم أنه درس الموسيقى في هنكاريا ، واستمر يلحن لكن بدرجة متراجعة كثيراً عن تلك الروح التي تفجرت بأغانيه الأولى ووطنه الأول.

أقرأ أيضا