قالت لي سيدة بريطانية إنها بقيت شغوفة بهذه البلاد منذ قرأت رواية “أجرام سماوية” لجوخة الحارثية التي فازت بجائزة مان بوكر قبل سنوات، وهذا الشغف وحده جعلها تكون هنا! كانت هذه السيدة تتحدث بينما مسرح “دروري لين الملكي” الذي شهد عبر تاريخه أشهر الإنتاجات الموسيقية الخالدة في العالم، كان يرفع القبعة الإنجليزية لشباب أوركسترا مسقط الفيلهارمونية السلطانية، في عرض جدير بأن يكون باهرا عندما يتعلق الأمر بأصابع غضة لفريق موسيقي غالبية أعضائه من الشباب والفتيات في العشرينات من أعمارهم.
في هذا العمر قبلوا الدخول في رهان القطع الموسيقية الصعبة، وجعلوا الجمهور البريطاني يتأمل مشهدا نادرا عندما تكون هذه الأوركسترا تقدم عرضها الأول في لندن، وهو عرضها الأول أيضا خارج سلطنة عمان.
كان من المثير للإعجاب أيضا أن تكون إلهام الطوقية قائدة الأوركسترا كأول فتاة عمانية وخليجية ارتقت إلى هذا المجد الحسي، بعد أن نمّت مسيرتها كعازفة كمان حائزة على درجة الماجستير في قيادة الموسيقى من الكلية الملكية الويلزية للموسيقى والدراما.
لم يكن عمر هذه الأوركسترا مع فريق الإنشاد الأوبرالي المقتصرة على شباب وفتيات عمانيين حصرا، أكثر من 14 عاما، وهي تسترق الأسماع إليها في أفخم قاعات الموسيقى العالمية بالعاصمة البريطانية.
خضعوا هؤلاء إلى تدريب صارم ومكثف منذ أن كانوا في أعمار الرابعة عشرة لبناء أساس قوي في تقنية الأوركسترا.
ومع أن هذا الحفل هو الأول لهم خارج عمان، إلا أنهم اختاروا الولوج في الاختبار الأصعب لأداء قطع كانت بمثابة الرهان على الأداء التكنيكي في العزف، فكانت الرقصة الأخيرة، العمل السيمفوني من حركة واحدة للإيراني محمد رضا علي غولي الذي جمع بلمسة لحنية معبرة اللمسات الشرقية والغربية معا.
ثم اختاروا التوزيع الأوركسترالي للحن الفنان إبراهيم المنذري لقصيدة الشاعر هشام الصقري “وتجلت لي عمان”، عادوا بعدها في كونشيرتو فيلكس مندسون وهم يتلاعبون بحركات الكمان لكسر توقعات المسامع عن حركة تقليدية ظاهريا في الكونشيرتو! لكن عندما دخل ببراعة عازف الكمان المنفرد مؤيد بن عامر الحلبي، على الفور ومن دون مقدمة أوركسترالية كانت المفاجأة في هذه القطعة.
أثاروا الأسماع بعدها بينما كانت القائدة إلهام الطوقية أشبه بحمامة عربية ساحرة على مسرح لندني مترع بتاريخ من الموسيقى، وهذه المرة برقصة إسبانيا “الخطوة المزدوجة” لباسكال ماركينا. وغالبا ما يرتبط أسمها بالرقصة النارية والدرامية.
ثم مروا على قصيدة الشاعر الأميركي روبرت فروست “المرعى” التي صنع منها الموسيقار راندال ستروب قطعة موسيقية هادئة تعلم الأسماع الإنصات المنعش لصوت النسيم والطيور!
صفق جمهور مسرح “دروري لين الملكي” بحماس منقطع النظير بعد سماع الرقصة المجرية ليوهانس برامز. وكان عليه أن ينصت ويتأمل باهتمام وفي آن واحد كيف يقدم العازف العربي للأوبرا الهزلية “العروس المقايضة” لبدريتش سميتانا الذي يلقب بأبي الموسيقى التشيكية.
في كل ذلك لم تبد هذه الأوركسترالية العمانية وكأنها مخلصة للموسيقى الغربية وحدها، كان عليها أن تسمع الجمهور الإنجليزي ماذا تعني الطربيات العربية، لذلك عادت إلى “سألوني الناس” لفيروز ذلك اللحن الباهر الذي صنعته مشاعر ومخيلة ابنها زياد وهو في السابعة عشرة من عمره! كرسالة شوق وانتظار من فيروز إلى زوجها المريض آنذاك. ثم الموشح الأندلسي “جادك الغيث” للشاعر لسان الدين بن الخطيب ولحني زكريا أحمد لقصيدة “ما شممت الورد” وقصيدة بيرم التونسي “غني لي”.
إن ما يتعلمه المرء حقا بعد هذه الأمسية التي انتقت “الكلاسيكيات العالمية” من دون أن تغفل الألحان العربية، أن هناك موسيقيين يتحملون اليوم أصعب مهام الحفاظ على الذائقة السمعية العربية التي يراد لها أن تشوه في موسيقى أقل ما يقال عنها بغيضة.