صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

لهيثم وجع الدموع في مآقيها

في لحظات التعب والجدل والتأسي، كان يضع يديه على وجهه ويعيد التساؤل الذي طالما كرّره أمامي “متى نتقاعد يا كرم؟.”

واليوم استعيد مع هذا التساؤل سنوات ما بين بغداد ولندن، وبينهما طفنا بلدانا معا. ولأن الموت قدر ليس بمقدورنا أن نرفضه غير أن نقف أمامه كيقين يشبه الشك. لكن “تبا له!” صار يوجعنا أكثر من قدرة قلوبنا على تحمل صدماته وهو لا يتوقف عن اختطاف من نحب.

واليوم يكسر الموت ما تبقى من قلبي المسكين ويأخذ صديق سنوات الاغتراب الطويلة هيثم الزبيدي.

مع أننا بعمر واحد وكنا في جامعتين متقاربتين في بغداد بيد أن القدر لم يجمعنا إلا مصادفة في قاعة الأورفلي للفنون التشكيلية منتصف ثمانينات القرن الماضي، انتهى اللقاء سريعا وغادر هيثم بعدها بغداد إلى لندن.

أعاد أبوعمر اختراع نفسه وهو يكمل شهادة الدكتوراه في الهندسة النووية في “إمبريال كولج” إحدى أرقى الجامعات في بريطانيا.

كان هيثم الزبيدي من أبناء صحيفة “العرب” اللندنية منذ تسعينات القرن الماضي يكتب عموده، بحس هندسي كي يفتح نوافذ من ذلك المزيج الذي كان يعيشه. حتى صنع مشروعه الخاص في موقع “ميدل إيست أونلاين” الذي يمر عليه اليوم ربع قرن.

أراد القدر أن يجمعنا ثانية في لندن بنفس ليلة تسمّم المعارض الروسي ألكسندر ليتفينينكو. أبلغتنا السلطات بعدها بضرورة الفحص خشية تسرب السموم إلى من كانوا ليلتها في الفندق!

لم يتوقف هيثم عن التفكير حتى أعاد حنينه لسنوات جريدة “العرب”، فصنع منها ما يجعلها تستعيد مجدها.

مازلت أتذكر كيف رسمنا معا بمشاركة الأستاذ محمد الهوني أثناء زيارتنا للمغرب، صورة جديدة للجريدة القديمة على طاولة مقهى في الدار البيضاء. تلك الجريدة التي ولدت في لندن بلمسات الراحل أحمد الصالحين الهوني عام 1977، وانتقلت إلى تونس وأعادها الزبيدي إلى لندن ثانية ليجعل منها صحيفة مؤثرة في ذروة زمن غير عادل كانت وما زالت تعيشه الصحافة.

هيثم كان يفكر أكثر مما يفعل أي شيء آخر ولا يتوقف عن جملته التي طالما رددها على من يعرفونه “عندما نستمر بالصراخ فلا أحد سيسمعنا”. كان يريد أن يجعل من الصحافة أشبه بمخطط تصنيع هندسي من دون أن يفرط بجماليات اللغة وبلاغتها. فهو قارئ جيد قبل أن يكون مهندسا. يعرف طبيعة الصحافة في الغرب ويعي معضلتها في عالمنا العربي، ويدرك وهو يعيد بناء صحيفة “العرب” اللندنية، أن وسائل الإعلام العربية الطفل المدلل للسياسيين. ومع الدلال يأتي المال.

الاحتكار للموارد جعل وسائل الإعلام تتوجه إلى القارئ الأهم: الزعيم. هو قارئ وحيد يحب نوعا من الأخبار، لكنه القارئ الذي ينبغي مراعاته. بقية الشعب، بمن فيه كبار المسؤولين، مجرد تفاصيل. فكيف له أن ينقذ مشروعه من تلك المعادلة القاسية؟

هكذا كان يقول الأهمية تكمن في المفاهيم التي يتداولها بعض المشرفين على الإعلام العربي، وقراءة خاطئة من هذا النوع تجعل التكنولوجيا المتقدمة بيد متخلفة.

تردي المحتوى وليست التقنيات هو ما أطاح بالإعلام العربي، أو استبدله على وجه الدقة كما كتب الراحل العزيز قبل سنوات. الناس لا تتابع الإعلام العربي لأنه لا يقول ما يفيد أو يقدم ما فيه معنى.

كانت تلك فلسفة هيثم الزبيدي الذي لم يجعله الموت يستمر فيها كأحد أهم الشهود الرائعين على معضلة الصحافة العربية المغتربة.

في أيامه الأخيرة كان هيثم يخفي أوجاعه ويدرك أن العمر يخذله مبكرا. وعندما انهمرت دموعي أمامه. قال لست وحدك فأنا قد بكيت قبلك هل تتذكر؟ كانت دموعه النادرة قد انهمرت عندما فقدنا صديقنا الرائع محمد خلف المزروعي قبل سنوات. وها أنا أفقد صديقي هيثم بوجع يفوق الدموع في مآقيها.

أقرأ أيضا