خاضت الأحزاب السياسية في البلاد يوم أمس، مارثونا تاريخيا، انتهى بفوز مرشح الاتحاد الوطني الكردستاني المرغوب بغدادياً برهم صالح، ليكون رابع رئيس لجمهورية العراق في عهد ما بعد 2003، والتاسع في تاريخه الحديث، حاسما بذلك جدلا كبيرا حول الشخصية التي ستشغل المنصب، بعد التنافس الحاد بينه وبين مرشح الحزب الديمقراطي الكردستاني فؤاد حسين.
ولم تمض برهة من الزمن حتى أعلن رئيس الجمهورية المنتخب عن تكليفه السياسي المخضرم عادل عبدالمهدي رئيسا لمجلس الوزراء، منهيا بذلك كافة التكهنات بشأن من يخلف العبادي الذي سيترك المنصب وخلفه إنجازات متعثرة، ولهذا الحدث التاريخي عدد من المعطيات التي سأسعى لتسليط الضوء عليها بشكل مختصر:
أولا: حملت الصفقة الرئاسية الجديدة، جينات الصفقات السابقة، لجهتين: أولاهما مراعاتها التوازن بين النفوذين الأكثر تأثيرا (الأميركي والايراني)، الأمر الذي قد يفسر تواجد الجنرال الايراني في الكواليس، ومسارعة السفير الأميركي في العراق دوغلاس سيليمان الى مباركة الحدث، وحرص مبعوث الرئيس الأميركي بريت مكغورك، على الظهور في تغريدته الى جانب الرئيس المنتخب في لقطة حميمة، (رغم أن مكغورك الذي تنتهي مهمته قبل نهاية العام الحالي، لم يكن مرضيا جدا للادارة الأميركية، إلا أنه سعى للظهور بمظهر الناجح، كي يختم مهمته بأمر ايجابي). وثانيهما هي استعداد معظم الكتل السياسية للمشاركة في تشكيل الحكومة المنتظرة، وفقا لآلية النقاط التي انتهجتها التوافقات السابقة، الأمر الذي سيصعب من أية عملية إصلاح أو معالجة لملفات الفساد.
ثانيا: إن فوز برهم صالح بفارق كبير عن منافسه فؤاد حسين، مثّل نوعا من العقاب الديمقراطي لأي مسعى أو فكر انفصالي، فالتركة الثقيلة للاستفتاء على استقلال الاقليم، ووقوف الأخير (حسين) بجانبه علنا، والاشتراك بتنظيمه والترويج له، بالاضافة الى تصريحاته المسيئة بحق العراق، كانت كفيلة بامتناع النواب من التصويت له، الأمر الذي كشف عن خطأ جسيم في خيارات البارزاني، قد يضاهي خطأ الاستفتاء، في حين كان بامكانه تجنبه بمجرد الاستماع لصوت العقل والمنطق، ونصائح الحلفاء السياسيين الذين طالبوه باستبدال المرشح، إلا أن إصراره واستقتاله على إسناد المنصب لشخصية يراها “الشركاء” مليئة بنقاط الضعف، رجح كفة صالح الذي عرف كيف يخاطب الاخرين.
ثالثا: إن شخصية رئيس الوزراء المكلف عادل عبدالمهدي، ربما تكون هي الأكثر شبها بشخصية سلفه حيدر العبادي، من حيث الهدوء والدبلوماسية، والقدرة على مخاطبة العقل الغربي، الامر الذي يؤهله للسير على خطى سلفه في تعزيز العلاقات الدولية، وإصلاح المسار الاقتصادي، مع استمرار الاخفاق في محاربة الفساد نظرا لطبيعتيهما المرنة التي تفتقر للجرأة في مثل هذه الموارد.
رابعا: تنصيب عبدالمهدي كسر احتكار حزب الدعوة لمنصب رئيس الوزراء لأول مرة منذ 13 عاما، وهو ما مثل نكسة تاريخية للحزب، الامر الذي قد يجعل من الصعب عليه استعادة المنصب الأغلى في بورصة السياسة العراقية، في ظل التنافس الشرس بين الاحزاب السياسية، وهو نتيجة طبيعية للخلافات والصراعات المتراكمة داخله، لكن ذلك لن يقوى على إنهاء مسيرته التي ستتضاءل كثيرا بكل تأكيد.
خامسا: الأهم في كل ما جرى، أنه ورغم ضآلة التفاؤل الشعبي في المجمل، الا أن مشهد التداول السلمي للسلطة يبدو أنه يتكرس يوما بعد اخر، رغم أننا شهدنا يوم أمس، سقوط حزبين كبيرين (الدعوة، والديمقراطي الكردستاني) في حلبة الصراع السياسي، دون ملامح عنف من قبلهما (لغاية الان طبعا)، في ظاهرة تمثل ربما الحسنة الوحيدة للنظام الغارق في الفساد والفشل والفوضى.