صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

مآلات الخطاب الديني (2)

أسباب الإخفاق:

ثانيا- أضحى الخطيب الديني غالبا يخوض في كل شيء إلا جوهر الدين وروحه، يتحدث عن مفردات خير ما يقال عنها انها جزئية هامشية ليس لها أولوية في حاضر المجتمع أو مستقبله، ولا هي من صلب الدين، كالحديث عن جزئيات صفات الحور العين، أو الملائكة، وتفاصيل الحياة في الجنة أو في جهنم، متجاهلاً إحياء الحالة الإيمانية، وتشييد العلاقة مع الله تعالى على أساس الحب، وحضوره تعالى في قلوب المؤمنين، وما يتبدّى عن ذلك من قيم روحية، ومبادئ إنسانية كالمحبة، والتسامح، وحب الخير للآخر، والرحمة، وهو بذلك يستبدل اللباب بالقشور، والجوهر بالعرض، والمضمون بالشكل، ويرسل -من حيث يقصد أو لا يقصد- رسائل خاطئة لمستمعيه مفادها ان هذه العرضيات والشكليات هي التي تعبر عن حقيقة الدين وغايته، يكفي للوصول الى الله التمسك بها فحسب. فأضحى المجتمع بتأثير هذا النوع من الخطاب قشريّا، سطحيّ الوعي، ساذج الثقافة، يعاني من خواء داخلي، يتهالك على التمسك بالظواهر، يؤمن بكل مايطرق سمعه من أفكار مهما بلغت درجة سذاجتها. تمتلئ بأفراده المساجد في الجمعات والأعياد، في وقت ترزح بلدانهم تحت وطأة التخلف والفساد.

ثالثا- الاعتقاد الشائع خطأً لدى غالبية عظمى من الناس، أن الخطيب إنما ينطق عن الله تعالى، فهو وكيله والناطق الرسمي باسمه، وحلقة الوصل بينهم وبينه، والمتحدث نيابة عنه، وفي هذا السياق جاء من لا همَّ له سوى تحقيق مصالحه، وبسط نفوذه للإستحواذ على الهيمنة والسلطة والقوة والمال. مكرّسا هذا الفهم الساذج في وعي الناس، ومؤكدا عليه ليفتح الباب على مصراعيه في ان يقول ما يشاء مما لا يقبله عقل ولا منطق، ومما لا شاهد عليه من كتاب الله أو سنة النبي وأهل بيته الكرام (ع)، ويخوض في ما لا دراية له به ضامنا قبول الناس به، وإيمانهم المطلق بما يقول فضلا عن أن يفكر أحد بالمجازفة بنقده أو الاعتراض عليه ومسائلته. أذكر بهذا الصدد موقفا حصل معي شخصيا وكنت حينها مدعوا لإحياء مجالس عاشوراء في لبنان فجاء من يسألني بكل رهبة وجدية، وكان كمن يمتلك الجواب ولكنه يريد ان يطمئن قلبه فقط، قائلا: سيدنا انت حينما تكون على المنبر هل تسمع اصواتا لا نسمعها نحن، أو ترى اشخاصا لا نراهم؟ ولم يكن سهلا ابدا اقناعه بعدم صحة ما سئل عنه إذ كان يعتقد حينها أني بصدد إخفاء الحقيقة عنه!

رابعا- ولع غالبية الخطاب المنبري بلغة التهديد، والوعيد والتخويف، والارعاب، والتركيز عليها، فقد أسهبوا في ترويع الناس بتفاصيل عذاب القبر والبرزخ بما لا حجة لهم به، معتمدين على روايات ضعيفة مهجورة، وقصص خيالية من قبيل عظم حجم الحيات والعقارب التي ستنهش لحم من يذنب ذنبا مهما كان صغيرا، وأنه يسلط عليه انواع من العذاب لو سلط على أهل الدنيا لضجوا منه! يحسب هؤلاء أنهم بكثرة تهديدهم ووعيدهم إنما يكرسون الحياة الروحية، ويثرون الحياة الأخلاقية، ولم يدركوا أنهم بذلك إنما يخرجون الله من قلوب الناس ليرسخوا مكانه الكراهيات، ويفشوا فيها التعصبات، وخلق طاعة لله تعالى قائمة على أساس الرعب منه لا محبته، والخوف من قسوته لا رجاء رحمته. نعم الخوف مع الرجاء تشكل احدى الخطوط المتقابلة في نفس الانسان المؤمن، تنظمان مسألة الطاعة له عزّ وجل، ولكنه أي خوف؟ إنه خوف الحب لا خوف الرعب وشتان بينهما، خوف من يحرص أشد الحرص أن لا يشهد منه حبيبه ما يسوؤه، لاخوف من يتوعدك أن يظفر بك وانت في أضعف حالاتك، اعزل لا حول لك ولا قوة، وهو جبار السماوات والأرض، العقل المطلق، والقوي القادر، ليصب عليك جام غضبه فيذيقك أصنافا من العذاب لا تحتمل كما لا تتناسب ومقام الربوبية بما يتحلى به من صفات الرحمة والشفقة واللطف! لكم أن تتصوروا حجم الخوف والقلق الذي يصاب به الكبار فضلا عن الأطفال وهم يستمعون الى هذا الخطاب الترهيبي في سنيهم الأولى، الخطاب الذي يبني فردا خائفا، مترددا في حاضره، ومهزوزا، مهزوما في مستقبله.

ناهيك ما يمارسه بعضهم من تضييق حريّات الناس المباحة إلى حدود قصوى، ما أنزل الله بها من سلطان. لدرجة أن بعضهم اعتبر ان مفهوم الحرية دخيل على الاسلام! متناسين ان ذلك انما يسهم اسهاما مباشرا في تشويه صورة الله الرحمن الرحيم عند المسلم، اضافة إلى تأزيم علاقته بربه، قال تعالى: “قُلْ يا عِبادِيَ الَّذينَ أَسْرَفُوا عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَميعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحيم‏” الزمر : 53. ورد في الاثر عَنْ الامام عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (ع) قَالَ: ” الْفَقِيهُ‏ كُلُ‏ الْفَقِيهِ‏ مَنْ لَمْ يُقَنِّطِ النَّاسَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ وَلَمْ يُؤْيِسْهُمْ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ وَلَمْ يُؤْمِنْهُمْ مِن

مَكْرِ اللَّه‏.”

أنهك هذا الخطاب المفرغ من المعنوية أرواحنا، واستنزف قلوبنا، وعمل على رسم صورة مفزعة لله تؤدي إلى الغرق في القنوط والقلق والخوف، وكأن الإنسان المؤمن في معركة مزمنة مع الله ف( ليست المهمة الأصلية للأديان رسم صورة مرعبة لرب العالمين، وتحويل صورة العالَمَين – الدنيا والآخرة- إلى سجون أبدية ووضع الكائن البشري في قلق متواصل، وزرع الخوف في قلب الإنسان مما سيفضي إليه مصيره في القبر وعذابه، وجحيم العالم الآخر).

اراد الله تعالى ان تكون علاقة المؤمن به مشيدة على أساس من المحبة وحسن الظن “… يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ …” المائدة: 54. وقوله تعالى: “… وَالَّذينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ …” البقرة: 165. وعمل ايضا هذا الخطاب المأزوم على تفريغ الدين من قيمه الروحية كمحبة جميع الناس، وحب الخير لهم، والتوق إلى الجمال، والرحمة، والتسامح، ليحل محلها القبح والكراهية والاحقاد والعداوات وسوء الخلق.

يتبع…

أقرأ أيضا