صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

ماذا لو تأثر أنزوروف بثقافة محمد (ص)؟

غالبا ما كانت تستفزني جملة الاستغراب التي يطلقها البعض في انتقاد تصرف يصدر من شخص متعلم “إن فلان دكتور أو خريج ومثقف, فكيف يبدر منه هذا التصرف؟” هذه الجملة يرددها كثيرون، ويربطون فيها مستوى التعليم بالثقافة في الوقت الذي يكون هناك بون شاسع بين الاثنين, فالشهادة الجامعية وإن علت واللقب العلمي وإن كبر والدراسة الجامعية، وإن طالت لا يعدو أي منها أن يكون سوى اكسسوار يجمل السيرة الشخصية لذلك الشخص دون أن تجعل منه مثقفا أو حتى واعيا!!

يشير الكاتب هيثم مزاحم في مقاله الموسوم (في تعريف الثقافة وتأويلها) إلى أن أقدم التعريفات وأشدها رسوخاً وثباتاً كان التعريف الذي قدمه إدوارد بورنث تايلور في بداية كتابه “الثقافة البدائية” الصادر عام 1871 حيث عرّف الثقافة بأنها “تلك الوحدة الكلية المعقدة التي تشمل المعرفة والإيمان والفن والأخلاق والقانون والعادات، بالإضافة إلى أي قدرات وعادات أخرى يكتسبها الإنسان بصفته عضواً في مجتمع”. ومن هذا التعريف المهم يتضح لنا بأن الثقافة عملية معقدة تنتج عن تراكم معرفي وعلمي وفكري وأخلاقي وقانوني وفني ممزوجة بواقع قيمي تضيفه البيئة المحيطة وإيماني ترسخه المعتقدات، وإن أدواتها هي القراءة والاطلاع وطرق أبواب المعرفة ومجالسة المثقفين وحضور مجالس العلم والفن والثقافة وفهم الأديان على إنها تقويم لمسار حياة الإنسان والاتجاه نحو تفسير الكتب السماوية تفسيرا يتوافق مع العقل السليم لا الالتصاق بحرفية النص أما نتائجها فهي لا تنحسر في الملبس والمأكل وأناقة الهندام وتصميم المنزل ونوع السيارة إنما هي انعكاس لسلوك وتصرف وحديث وأفعال ومواقف تعطي انطباعا للآخرين أن الماثل أمامهم هو شخص مختلف عن الآخرين.

حين وصل عبد الله انزوروف إلى فرنسا كان أصغر سنا وفقا لبيان السفارة الروسية في باريس بعد الحادث وكان عمره لا يتجاوز الست سنوات وحصل على بطاقة إقامة لأجيء مع أهله ثم أستقل ببطاقة الإقامة الخاصة به وفقا للقانون الفرنسي عند بلوغ الشخص الثامنة عشر من العمر, ويبدو إن هذه الفترة لم تكن كافية لاندماجه مع المجتمع الفرنسي خصوصا وإن المسلمين غالبا ما يتقوقعون على أنفسهم وإن سلطات الهجرة الفرنسية تقوم بإسكانهم في مدن وقرى فرنسية بعيدة مغلقة لا يرغب سكانها من الفرنسيين من الاختلاط والانفتاح على الأغراب وخصوصا من المسلمين بسبب هاجس الخوف الذي لف العالم من أفعال المتشددين والمتطرفين الإسلاميين وبالمقابل عدم محاولة المسلمين التعايش معهم بطرق سلمية وهادئة واحترام عاداتهم وتقاليدهم إنما محاولة فرض ثقافاتهم التي جاءوا بها من بلدانهم على المجتمعات التي لجأوا لها, لذلك يتوجهون نحو العبث بالممتلكات العامة وإقلاق راحة السكان المحليين لإيصال رسالة تفيد بأننا هنا, وما ظهر في سجل عبد الله أنزروف السابق في مركز شرطة المدينة الفرنسية التي عاش فيها خير دليل على ذلك ناهيك عن مئات الحالات المشابهة التي تسجلها الشرطة ضد المقيمين العرب والأفارقة.

في هذه المرحلة تبدأ فكرة استغلال عبد الله أنزروف ومن يشابهه تراود المتشددين الذي يعتنقون أفكارا متطرفة وتبدأ عملية غسل العقول والأدمغة في حلقات الجوامع أو الحلقات السرية وخصوصا المراهقين الذين يتركون مدارسهم بوقت مبكر بحثا عن عمل بسيط كالتوصيل والتنظيف والخدمات المشابهة أو يتجهوا لممارسة أعمال غير قانونية وغير مشروعة كتجارة السجائر والممنوعات وترويج الحشيشة والمخدرات ويتحول ذلك المراهق شيئا فشيئا إلى حاقد وناقم على مجتمعه وبيئته المحيطة به خصوصا إذا ما رافق ذلك العيش في ظل عائلة متشددة تحاول فرض التعاليم الدينية على أبنائها بالقوة فيصبح من السهل السيطرة على عقول هؤلاء والتحكم بهم لتحقيق تلك المهام الشيطانية الخبيثة وهذا ما جرى مع أنزوروف وغيره في معظم العمليات الانتحارية والإرهابية التي ضربت أوربا بشكل عام وفرنسا بشكل خاص وكان معظم منفذي الهجمات في بداية عقدهم الثاني من العمر أو أصغر وهي المرحلة العمرية التي تتصف بالاندفاع الأهوج وتكون مرحلة الكارثة اذا ما رافقها انعدام الوعي وضعف التربية الأسرية.

تذكرني قصة عبد الله أنزوروف بذلك المهندس الجزائري الشاب الواصل حديثا لفرنسا والذي التقيته في حلقات دراسية لتعلم اللغة الفرنسية عام 2015 إبان العمليات الإرهابية التي ضربت فرنسا وأسقطت العشرات من الأبرياء بين قتيل وجريح, وصادف في حينها إن نظمت الحكومة الفرنسية تظاهرة مليونية للوقوف ضد الإرهاب, سألت المعلمة المسئولة عن الدرس, من سيشارك في التظاهرة, فرفعت يدي مع بعض الحاضرين من جنسيات غير عربية, فجن جنون الفتى الجزائري الذي كان يرمقني بنظرات حقد واشمئزاز حتى إذا فرغنا من المحاضرة جاء وسألني بتعصب وغضب هل ستحضر فعلا؟ فأجبته بهدوء تام, نعم ولم لا, فأنا من بلد عانى ما عانى من ويلات الإرهاب وخسر الآلاف من أبنائه الأبرياء الذين لا ذنب لهم سوى إنهم أبناء العراق, واليوم يضرب هذا الإرهاب اللعين فرنسا ويقتل الأبرياء أيضا, فأجاب إنهم يستحقون, لقد احتلونا لمائة وثلاثين عاما ولا بد أن يدفعوا الثمن؟ وجدت نفسي أمام إنسان حاقد ومغسول الدماغ تماما لا شاب متعلم حاصل على شهادة في الهندسة, ولد بعد عدة عقود من استقلال بلده الجزائر وربما حتى أبوه لم يكن مولودا في حينها لكنه لا يرى في فرنسا التي قصدها لحياة أفضل سوى احتلالا سابقا لبلده وعليه أن يثأر؟ فكيف تقنع هذا الإنسان (المتعلم) الذي ورث عن أسلافه هذا الكم من الحقد والكراهية والتحريض على القتل والانتقام بأن مفاهيمه أصبحت بالية وإن ما يتحدث عنه ليس سوى تاريخ أكل عليه الدهر وشرب وأن هناك صفحات تاريخية أكثر سوادا لكنها طويت للأبد؟

هنا تتجلى معاني الثقافة كسلوك وتعامل وتصرف عقلاني لا عدوانية وانتقام تجاه شخص أخطأ التصرف مثل صامويل باتي أو غيره, رغم إن ما فعله باتي وما فعلته مجلة شارلي ايبدو في وقت سابق لم يشكل من وجهة نظري إهانة للنبي أو للدين الإسلامي بقدر ما كان دعاية لمجلة مفلسة مقبلة على الغلق أنقذتها حماقة الأخوين كواشي في الوقت الذي يسيء فيه المسلمون لدينهم ولنبيهم بسلوكيات وتعاملات لا ترتضيها تعاليم الدين الإسلامي السمحاء, فأين هم من قوله تعالى (كنتم خير أمة أخرجت للناس)؟ ولو قدر للنبي أن يلتقي بعبد الله أنزوروف لعاتبه عتابا شديدا على فعلته التي أساءت للنبي وللإسلام وصورت للعالم بأن هذا الدين هو دين القتل والذبح وقطع الرقاب ولعلمه درسا مفاده إن الله وضع نبيه في مكان أسمى وأعظم من أن يسيء له الآخرون حين يخاطبه سبحانه وتعالى في كتابه العزيز (إنا كفيناك المستهزئين) ناهيك عن الدروس الأخلاقية التي علمها النبي لأعدائه قبل أتباعه حين كان أرأف الناس وأرحمهم بمن أذاه وحاصره وهجره وحاربه وقتل أعز الناس على قلبه ويتجلى ذلك السلوك العظيم يوم فتح مكة حين سأل الرسول القوم المهزومين المرعوبين (ما تظنون أنني فاعل بكم؟ قالوا أخ كريم وابن أخ كريم, قال أذهبوا فأنتم الطلقاء)! بينما كان قادرا على ذبحهم عن بكرة أبيهم, صغيرهم وكبيرهم, لكنه لقنهم درسا إنسانيا وأخلاقيا كان أشد عليهم من قطع الرقاب, أي درس على المسلم تعلمه أبلغ من هذا الدرس؟ وأي ثقافة ننسبها لمن يحمل شهادة عليا أبلغ من هذه الثقافة؟

إنها ثقافة التسامح التي لو تعلمها عبد الله أنزروف وغيره لما وصلت سمعة الإسلام لما هي عليه اليوم.

أقرأ أيضا