صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

ماذا يعني 24 أبريل؟

 

تلقت “العالم الجديد” رسالة من سفارة الجمهورية التركية في بغداد، تضمنت طلبا بنشر حصري لترجمة مقال كتبه باحث فرنسي يدعى الدكتور مكسيم غاوين، ردا على المقالة التي كتبها السفير الارميني في بغداد “هراتشيا بولاديان”، وجاءت تحت عنوان: (106 أعوام على جريمة الإبادة الأرمنية)، وانطلاقا من ايمانها بحرية التعبير وكفالة حق الرد والاستقلالية وعدم الانحياز في العمل الصحفي، فانها تنشر نص المقال المذكور (ماذا يعني 24 أبريل؟):

 

 

الإبادة الجماعية هي جريمة معرفة بدقة بموجب القانون الدولي، حيث تتطلب وجود نية لتدمير جماعة عرقية أو إثنية أو قومية أو دينية وهكذا. الكراهية العرقية ليست كافية للوصول إلى حد ارتكاب إبادة جماعية. ولهذا السبب، رفضت المحكمة الدولية ليوغوسلافيا السابقة معظم مزاعم “الإبادة الجماعية”. علاوة على ذلك، كشفت محكمة العدل الدولية في حكمها الصادر في 3 فبراير 2015 في قضية كرواتيا ضد صربيا، أن اتفاقية الإبادة الجماعية لعام 1948 لا يمكن تطبيقها بأثر رجعي على الأحداث التي وقعت قبل تاريخ دخول الاتفاقية حيز التنفيذ.

 

وبشكل أكثر تحديدًا فيما يتعلق بالقضية الأرمنية، فإن الوثيقة القانونية الأكثر موثوقية هي معاهدة لوزان. إن الدمار الذي لحق بغرب الأناضول على يد القوات اليونانية في 1921-1922 مذكور بشكل صريح وواضح، بينما لا يوجد شيء يمكن أن يبرر بأي شكل من الأشكال تهمة “الإبادة الجماعية للأرمن”. أما بالنسبة إلى قرارات قضية دوغو برينجك ضد سويسرا في 17 ديسمبر 2013 (117-116§§) و 15 أكتوبر 2015 (231 و 173§§)، رفضت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان فكرة “الإجماع العام” على مزاعم الإبادة الجماعية بحد ذاتها. وفي 26 يناير 2017، قرر المجلس الدستوري الفرنسي تعريف أحداث عام 1915 على أنها موضوع ” نقاشات تاريخية.”

 

المشاكل القانونية التي ذكرت ليست المشاكل الوحيدة. مثل هذه القرارات لا تتوافق مع أي شكل من أشكال “الإجماع” بين المؤرخين. على العكس تمامًا، فإن أكثر المؤرخين المؤهلين، مثل برنارد لويس وجيل فاينشتاين (مؤسسة كوليج دي فرانس المختصة بالبحث العلمي) وجونتر ليوي وإدوارد جيه إريكسون وجيريمي سالت وغيرهم، لطالما رفضوا تسمية “الإبادة الجماعية للأرمن”. في بادئ الأمر، اعتقلت السلطات البريطانية واحتجزت في مالطا 144 مسؤولًا عثمانيًا سابقًا (بما في ذلك سعيد حليم باشا، رئيس وزراء الحكومة العثمانية في الفترة ما بين 1913 إلى 1917)، من 1919 إلى 1921. لمدة عامين، صادر المحققون الوثائق العثمانية (والتي لا تزال موجودة في لندن: ولقد أمسكتهم بيدي في عام 2013)، وأجروا مقابلات مع شهود، وفي النهاية طلبوا المساعدة من وزارة الخارجية الأمريكية. وجدوا أدلة على ارتكاب مذابح ولكن لم يجدوا شيء ضد أي من هؤلاء المسؤولين العثمانيين السابقين البالغ عددهم 144 مسؤولاً. وكان كل هذا بعد أن رفض القضاة البريطانيون، ولا سيما المدعي العام لجلالة الملك في إنجلترا وويلز،  أي مشروع للمحاكمة، ودخلت لندن في مفاوضات لتبادل الأسرى مع حكومة تركيا في أنقرة. كما تمت قراءة ما يسمى بـ “وثائق أندونيان” و “الوصايا العشر” من قبل المحققين لكنها اعتبرت ملفقة.

 

إذا لم تكن النية من التهجير القسري ارتكاب إبادة جماعية، فماذا كانت؟ لقد كان قرارًا عسكريًا بناءً على مخاوف عسكرية، تتمثل في تمرد القوميين الأرمن في أجزاء عديدة من الأناضول، ولا سيما الشرق (لمساعدة الغزاة الروس)، وفي منطقة أضنة (لطلب إنزال ودعم أنجلو-فرنسي من قبرص) وفي ساحل بحر مرمرة (في سياق معركة الدردنيل). لذلك، فإن الجيش العثماني الذي يقاتل على عدة جبهات، لم يعد يملك ما يكفي من الجنود لسحق كل هذه التمردات. لهذا السبب قامت الدولة العثمانية وللاستشهاد فقط بسابقتين، باتباع الأسلوب الذي مارسه الجيش الإسباني ضد المتمردين الكوبيين في 1898-1896 والجيش البريطاني ضد البوير (أحفاد المستوطنين الهولنديين) في جنوب إفريقيا، وهو: ترحيل المدنيين قسراً لحرمان المتمردين من الدعم اللوجستي الذي يحتاجونه. تعد هذه الوسيلة قاسية ولكنها فعالة.

أحد أوضح الأدلة على اتخاذ القرار بناءً على المنطق العسكري هو حقيقة أنه لم يتم ترحيل ما لا يقل عن 350 ألفًا، أوعلى الأرجح 500 ألف أرمني، بما في ذلك العديد من أعضاء البرلمان العثماني وموظفي الخدمة المدنية والتجار الأغنياء والصناعيين والمصرفيين.. إلخ. وبالمثل، من الخطأ الاعتقاد بأن مكافحة التمرد تحولت إلى إبادة جماعية. في الواقع، من أكتوبر 1915 إلى يناير 1917، حكم القضاء العثماني على 1,397 مسلمًا عثمانيًا بتهمة القتل والاغتصاب و / أو النهب ضد الأرمن. هل يستطيع أحد أن يتخيل هتلر يحتفظ باليهود في مبنى الرايخستاغ بينما يأمر بشنق قائد معسكر أوشفيتز؟

 

سيكون من الخطأ أيضًا الاعتقاد بأن أي قرار “يعترف بالإبادة الجماعية للأرمن”، حتى إذا كان فيه خلل من الناحية القانونية والتاريخية، من شأنه أن يساعد تركيا على “مواجهة التاريخ”. لا أحد في تركيا ينكر وجود المجازر ذاتها، ولا أحد يشيَد بها. بينما الجانب الأرمني ينفي كل أو بعض المذابح التي ارتكبها المتمردون الأرمن والمتطوعون الأرمن في الجيش الروسي. استنتج المحققان إيموري إتش نايلز و آرثر إي ساذرلاند، المحققان اللذان أرسلتهما حكومة الولايات المتحدة في أقصى شرق الأناضول التالي: “نعتقد أنه لا جدال في أن الأرمن كانوا مذنبين بارتكاب جرائم من نفس الطبيعة ضد الأتراك مثلما أن الأتراك مذنبون بارتكاب جرائم ضد الأرمن”. وفي نفس التقرير، يمكن قراءة التالي: “أولاً، ذبح الأرمن المسلمون على نطاق واسع عبر العديد من أشكال القسوة، وثانيًا أن الأرمن هم المسؤولون عن معظم الدمار الذي لحق بالبلدات والقرى”. كما أوضح المؤرخ الأمريكي مايكل أ.رينولدز، قبل الترحيل القسري، كان الضباط الروس أنفسهم غاضبين من هذه الجرائم إلى حد كبير لأنها تسببت في مقاومة يائسة من قبل المسلمين وجعل الاحتلال أكثر صعوبة.

 

ولنختم مع الموقف التركي، قد اقترحت تركيا منذ عام 2005 إنشاء لجنة تاريخية مشتركة بين تركيا وأرمينيا، جنبًا إلى جنب مع أطراف ثالثة أخرى معنية، لدراسة أحداث عام 1915. وقد تجنب الجانب الأرميني هذا الاقتراح باستمرار حتى الآن. كما أن الأرشيف العثماني مفتوح ومتاح بينما أرشيفات المنظمات القومية الأرمنية في باريس ووترتاون (في الولايات المتحدة) ولوس أنجلوس ليست كذلك.

 

في الواقع، وبعيدًا عن الاعتراض على “الإنكار التركي”، فإن القرارات التي تؤكد “الإبادة الجماعية للأرمن” تتوافق (والمتأثرة بالماضي) مع الدعاية السوفيتية والإرهاب الأرمني. حيث بدأت حملة “الاعتراف” في عام 1965 بتحريض سوفيتي قوي للغاية وبعد فترة وجيزة من دعم هذه الحملة (اكتسبت) كل أهميتها عبر سلسلة من الهجمات ضد أهداف تركية وغيرها، من 1973 إلى 1991، بدعم سوفييتي حاسم، حتى الهجوم على مطار أورلي في 15 يوليو 1983 (قتل ثمانية سائحين). قُتل ما مجموعه 31 دبلوماسيًا تركيًا وحوالي أربعين شخصًا آخر (غالبيتهم من غير الأتراك) على يد الإرهابيين الأرمن. وفي كل مرة تم القبض عليهم فيها ومحاكمتهم، استخدموا “الإبادة الجماعية” كمبرر وهدد أنصارهم إما الدولة التي حوكموا فيها (محاكمة الناشط Jamgotchian في سويسرا في عام 1981 على سبيل المثال) أو المحكمة مباشرة (محاكمة الناشط الأرمني Kilndjian في فرنسا عام 1982). كما أن العديد من “المؤرخين” الذين دافعوا عن أطروحة “الإبادة الجماعية” قاموا بإدلاء شهاداتهم خلال هذه المحاكمات لتبرير الإرهاب.

 

باختصار، القرارات التي تؤكد “الإبادة الجماعية للأرمن” هي قرارات ضد القانون وضد التاريخ وضد العدالة وضد المنطق السليم.

 

أقرأ أيضا