ما بعد الفاجعة: المواجهة بتعميم المقاومة

إن دولة “إسرائيل” الصهيونية والتي قامت منذ يومها الأول على الإبادة وتهجير الناجين والاغتيال الغادر طوال تأريخها لم تأتِ بجديد في عمليات الاغتيال التي قامت بها جوا ضد المقاومة اللبنانية والفلسطينية والتي توجتها باغتيال قائد المقاومة اللبنانية المنتصر عليها نـصـر الـلــه؛ لم تأتِ بجديد غير التطبيق الحرفي لاستراتيجية الفاشي المقبور جابوتنسكي القائمة على إحاطة الكيان بستار حديدة مادي ومعنوي من القتل والاغتيال والإبادة لإرهاب السكان الأصليين الفلسطينيين وتهجير الناجين منهم وإخضاع العرب عموما وخصوصا في دول الطوق.

اغتيال جبل مجيد

إنَّ عملية الاغتيال بحد ذاتها، والتي تمت من خلال إسقاط ثمانين قنبلة خارقة للتحصينات زنة ألفي رطل (طن واحد تقريبا لكل قنبلة) أي أنها ألقت ثمانين طناً من المتفجرات الخارقة للتحصينات على رقعة مكانية صغيرة – والتي شبهها أحد المدونين بمحاولة لاغتيال جبل، ولقد كان نصر الله جبلاً مجيداً قولاً وفعلاً– إن هذه العملية الإجرامية لا تحتاج إلى اختراق أمني بشري كبير ومعقد، بل إلى إحداثية “معلومة ذهبية” واحدة من جاسوس واحد أو خلية عميلة واحدة تكفي لتحديد مكان الهدف المطلوب واستهدافه جواً. ولكن هذا لا يعني إنكار وجود الاختراق الأمني العميق التكنولوجي والبشري المزدوج، وقد أخطأتُ شخصياً في آخر مقالة لي (الأخبار – 23 أيلول 2024) حين اعتقدت بأن قيادة المقاومة قد كسرت حالة الإطباق الأمني التي تمثلت بالضربات الأمنية القاسية التي تتالت خلال أيام قليلة، وأزالت أو عطَّلت الخرق الأمني المحتمل والذي يبدو أنه لا يزال شغالاً. يترتب على هذه المقدمات والمعطيات القيام بإجراءات خاصة ربما لم تغب عن تفكير قيادة المقاومة ولعل في مقدمتها:

إخلاء القيادات من الضاحية الجنوبية ومن بيروت كلها بصفتها منطقة موبوءة مخابراتيا لمصلحة العدو في الوقت الحاضر ونقلها إلى أماكن بديلة تمهيدا للقيام بتطهير المنطقة أمنيا وبعمق كافٍ.

عدم الإفصاح إعلامياً عن هوية القائد الجديد – مع ضرورة الإسراع بإنجاز هذه الخطوة – وهوية القادة الجدد الذين استلموا الراية من الشهداء وعن المعطيات الخاصة بهم مؤقتا وحتى الخروج من حالة الإطباق المني المعادي.

التحقيق الدقيق والشامل والعميق من قبل جهات قيادية موثوقة في ماحدث وكشف الخرق الأمني البشري والتقني داخليا ومحيطياً.

تعميم حالة الإظلام المعلوماتي والأمني الشاملة والتوقف عن تسليم المعلومات والمتهمين بالخيانة والتجسس لمصلحة العدو إلى السلطات الحكومية والقضائية اللبنانية والتي ثبت بالدليل أنها متساهلة مع المدانين منهم – وقد تكون عناصر فيها شريكة لهم – والتعامل معهم داخلياً كما تفعل أية حركة مقاومة ثورية شعبية وتحديدا كما تعاملت المقاومة الغزاوية مع أمثالهم.

الاستمرار بمشاغلة العدو بالنار خلال حالة امتصاص الصدمة وبشكل تصاعدي ومؤثر. خصوصاً وأن الجسم التسليحي والمقاتل للمقاومة اللبنانية لم يمس بأذى كبير حتى الآن باعتراف العدو نفسه، وعدم التعويل على الاجتياح البري المعادي للاقتصاص من العدو. فهذا الاجتياح البري قد لا يحدث أو يحدث بشكل محدود جدا – وهذا ما أشارت إليه الصحف الأميركية (وول ستريت) صباح اليوم الأحد 29 أيلول-بسبب جبن قيادة وعساكر العدو، وعدم التعاطي التفاوضي مع العدو الصهيوني الأميركي في الوقت الحاضر. كما ينبغي الحذر من الاغترار والمبالغة بالقوة الذاتية ومن الشطحات والانحرافات الدينية والطائفية العاطفية في الخطاب والممارسات.

الصراع تحريريٌّ حضاريٌّ وليس دينيا

وبخصوص المحذور الأخير يمكن ان نضيف إلى ما تقدم من استنتاجات ومقترحات يفرضها واقع الحال الاتي:

 أعتقد أن قيادة المقاومة أدركت مبكرا وبدرجات مختلفة العمق والدقة أن طبيعة الصراع بينها وبين دولة العدو الصهيوني هي إنه صراع سياسي وحضاري شامل ذو هدف تحريري، وليس صراعا دينيا مذهبيا “بين متطرفين شيعة ويهود” كما يحاول العدو أن يقدمه للعالم في إعلامه. ولقد انتبهت قيادات المقاومة في لبنان وفلسطين -وخصوصا في فلسطين – مبكرا إلى هذا المفصل المهم فغلبت الطابع التحرري الوطني والحضاري في صراعها على الآخر الديني الطائفي وكانت تفرِّق في خطابها بين الصهاينة واليهود، رغم أنها تحمل أيديولوجية إسلامية -سُنية “حماس” وشيعية “حزب الله” – ولكن يبقى المطلوب وبإلحاح هذه الأيام هو تعميق هذا الطابع الوطني في إعلامها المقاوم خصوصا.

 وفي هذا الصدد كنتُ قد كتبت في مناسبة سابقة (مقدمة كتابي “موجز تاريخ فلسطين منذ فجر التاريخ وحتى الفتح العربي الإسلامي- دار الرعاة – رام الله – فلسطين المحتلة – 2018”). “إنَّ هذا الصراع أساساً، ومن حيث الجوهر، هو صراع جغراسياسي، حضاري، عسكري وثقافي “وبضمنه الديني” بين الحركة الصهيونية الأشكنازية ودولتها المفتعلة “إسرائيل” المدعومة غربياً من جهة، وبين الشعب الفلسطيني وحلفائه من الشعوب العربية والإسلامية وشعوب العالم من الجهة المقابلة. ولقد دخل العنصر الديني والتاريخي ضمن مشمولات هذا الصراع، بدفع وتأجيج من طبيعة الحركة الصهيونية الدينية التوراتية التكفيرية المعادية للأغيار الـ “گوييم”، أي الآخرين المختلفين دينياً، ومن طبيعتها القومية العرقية المنسوبة زوراً للعبرانية والعبرانيين الجزيريين “الساميين” شبه المنقرضين. وعلى ذلك، فليس من الصحيح والعادل والأخلاقي إدانة لجوء الإنسان الفلسطيني والعربي عموماً إلى استلهام إرثه الثقافي والديني في دفاعه عن مقدساته وعقيدته ووطنه وتراثه الديني الإسلامي والمسيحي والعروبي في الإعلام والسياسة، والسكوت وغضّ الطرف عن لجوء الحركة الصهيونية ودولتها السَّباقة إلى ذلك، والقائمة أصلاً على مزاعم وخرافات دينية توراتية، وقومية عبرانية مفتعلة، وإلى اتخاذ العنصر الديني التوراتي راية ومنهاجاً وثقافة لها”. وسيكون من مقومات نجاح المقاومات العربية تعميق هذا التفريق بين الصهاينة واليهود وتعميق الطابع التحرري لكفاحها والإعلاء من شأنه على حساب الخطاب الديني والأيديولوجية الإسلامية التي تحملها- ولها الحق في حملها – والتي ستكون عامل تفريق لجمهورها وانعزال عنه ضمن طوائفها بسبب من تنوع مكونات الشعوب العربية ذاتها.

نقطة تحول نوعي وتأريخي

قال الإرهابي الصهيوني بنيامين ميكولوفسكي “نتنياهو” إن عملية اغتيال القائد الشهيد ستكون “نقطة تحول تأريخي”، ولقد قال صواباً، ولكن نقطة التحول هذه ستكون في سياق مختلف عن ذاك الذي أراده هو وحكومة الإجرام والغدر التي يقودها وستؤدي إلى نتائج لم تدر بخلده مثلما لم يدر بخلد المجرم رابين الذي تجرأ على اغتيال القائد السابق للمقاومة السيد الموسوي في 16 من شباط سنة 1992 فحل محله القائد الشهيد نصـر الـله الذي تجرع الصهاينة على يديه وطوال ثلاثة عقود السم الزعاف والهزائم النكراء المتتالية!

لقد أراد العدو لجريمته هذه أن تكون تصفية حساب ختامية تنتهي بإغلاق الحساب ككل مع قائد ومهندس انتصار آيار 2000 وتحرير الجنوب اللبناني ولكنها فتحت، كما تشير التجربة الفعلية على الأرض، حساباً جديداً معه وتحولاً نوعياً وتأريخياً لتدفيعه ثمن الجرائم الجديدة والدماء التي سفكها والمعاناة التي تسبب بها للمدنيين اللبنانيين والفلسطينيين وسط صمت ولا مبالاة العلم ومنه الدول العربية والإسلامية!

إنَّ كل ما أقدمَ ويقدم عليه نتنياهو ومجموعة العنصريين المتطرفين من أحزاب الصهيونية الدينية في حكومته محكوم بأمرين؛ الأول هو استراتيجية الفاشي الصهيوني جابوتنسكي “الجدار الحديدي” لردع العرب بالقتل فالقتل ثم القتل، وبلعبة المنافسة الانتخابية الداخلية حيث اليد العليا لمن يقتل عربا أكثر فأنه سيحوز النسبة الأكبر من أصوات الجمهور الصهيوني المسعور والباحث عن الزعيم الأكثر عنفاً وسفكاً للدماء العربية بغض النظر عن مشروعية الأسلوب القتالي أو عدمها! ولهذا فإن نتنياهو العارف بنفسه وفساده ولا أخلاقيته الموثقة بأحكام قضائية من قضاء دولته وانعدام كفاءته في مواجهة هجوم 7 تشرين الأول “طوفان الأقصى” التي أذلته إذلالا لا سابق له، يبدو اليوم محشورا بين مثلث أطرافه هي: التراث الفاشي لفلاديمير جابوتنسكي أولا، وتحالفه الحكومي مع الصهيونية الدينية ثانيا، وجمهور انتخابي استيطاني يطالبه بالمزيد من سفك الدماء وحلفاء متطرفين في حكومة التحالف ولا مخرج له من مأزقه إلا بسفك المزيد من دماء العرب مقاومة وجمهورا عاما ثالثا. وعلى هذا فإن الأسلوب الأسلم والناجع والوحيد لكسر حدة السعار الصهيوني هو تشديد النكير عليه بالمقاومة المؤثرة وعدم التراجع عن الثوابت وأهمها ترسيخ وحدة الجبهات المقاتلة والربط بين وقف الحرب الإبادية في غزة فلسطين وفي جنوب لبنان، وعلى الجيل الجديد من المقاومين قيادات ومقاتلين أنْ يأخذ هذه المعطيات بنظر الاعتبار والحسبان في كفاحه وممارسته للعمل المقاوم مستقبلا.

 سيحاول نتنياهو تثمير انتصاراته الاستخبارية التكتيكية التي بلغت ذروتها باغتيال سيد المقاومة وتحويلها إلى أصوات انتخابية أولا، وإلى نوع من الردع المعمم للمقاومتين الفلسطينية واللبنانية ثانيا. وهو لم يكتفِ بهذا بل راح يطير تهديداته تحت وطأة نشوة الدم إلى جميع دول المنطقة وخصوصا ضد إيران. وكرر مقولاته وزيرُ دفاعه من أن طيرانه الحربي قادر على معاقبة أي طرف في الإقليم معاد إسرائيل أو يفكر بإيذائها. ولكن هذه الانتصارات المخابراتية الجوية التكتيكية ستتكسر بالتدريج وخلال أشهر قليلة على صخرة صمود المقاومتين اللبنانية والفلسطينية من خلال استمرار استهداف مناطق سيطرة العدو في فلسطين المحتلة.

مجداً وخلوداً وحباً أبدياً للقائد الشهيد أبي هادي نصر الله، الذي سيبقى قبساً متألقاً بالوعي والنبل والبسالة ومدرسة في التضحية وصنع الانتصارات في ضمائر الشرفاء، وكابوساً ثقيلاً في أذهان الأعداء الصهاينة وأذنابهم من عرب وعجم!

*كاتب عراقي

أقرأ أيضا