صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

ما وراء قانون الهدم العام: تهديدات مجتمعية وإخفاقات سنية

احتفلت القيادات السنية بإقرار قانون العفو العام وسط مشهد سياسي مشحون، حيث حاولت كتلة تقدم الترويج لهذا الإنجاز باعتباره ثمرة جهود زعيمها محمد الحلبوسي، إذ أعلنت تعليق حضورها في جلسات البرلمان مسبقًا، مشيرة إلى أنها لن تعود إلا بعد الموافقة على القانون، في محاولة واضحة لتصدر المشهد السياسي والادعاء بأن الإقرار يعود لجهودها، في المقابل سارعت كتلة سيادة إلى عقد مؤتمر صحفي قبل أن تخلو قاعة البرلمان من النواب، وسط مرور النواب أمام عدسات الكاميرات، حيث ألقى النائب سالم العيساوي البيان بجوار رئيس البرلمان محمود المشهداني.

مع إعلان إقرار القانون، عمّت أجواء الاحتفال منصات التواصل الاجتماعي بين أنصار الخنجر والمشهداني والحلبوسي، حيث اعتبر كل منهم الإقرار انتصارًا سياسيًا يُحسب لصالحه، في المقابل أبدى الإسلاميون من الإطار التنسيقي فرحتهم بإقرار قانون الأحوال الشخصية، بينما اكتفى الأكراد، كعادتهم، بالاحتفال بصمت تجاه المكاسب التي يحققونها، ولكن خلف هذه الاحتفالات التي تبدو مبهجة، تبرز خسائر غامضة لا يمكن تفسير الإصرار عليها من قبل قيادات المكون السني.

إذ إن تكرار طرح قانون العفو من قبل القيادات السنية للمرة الثالثة يعكس إخفاقًا واضحًا، ويكشف عن واقع سياسي مؤسف وغير مفهوم فقد تم تمرير القانون لأول مرة في عام 2008 في سياق سلة قوانين ثلاثية شملت قانون العفو، وقانون الموازنة العامة، وقانون المحافظات غير المنتظمة في إقليم. وفي عام 2016، طُرح القانون مرة أخرى ضمن إطار مساومة سياسية، حيث تم تمريره مقابل الموافقة على قانون هيئة الحشد الشعبي وقانون حظر حزب البعث.

في كلا الإقرارين، لم يُنصف القانون آلاف الأبرياء من المكون السني الذين وُجهت إليهم اتهامات بقضايا الإرهاب، سواء عبر تقارير المخبر السري أو من خلال محاكمات تفتقر إلى العدالة، ورغم أن غالبية ملفات هؤلاء المعتقلين تعود إلى فترتي حكومتي نوري المالكي، المتهمة بالتعسف الطائفي وفقًا لتقارير العديد من المنظمات الحقوقية، مثل منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش، إلا أن القانون لم يعالج هذه المظالم أو يقدم حلولًا تعيد الثقة بالمنظومة القضائية مرة اخرى.

هذا الإخفاق يثير تساؤلات حقيقية حول جدوى إصرار القيادات السنية على إعادة طرح هذا القانون، الذي يبدو أنه لم يحقق أي نتائج ملموسة، بل جاء دائمًا مقابل تنازلات تمثلت في تمرير قوانين أخرى تخدم أطرافًا سياسية مختلفة. لماذا إذًا الإصرار على هذه المقايضة الخاسرة، ولماذا لا تبادر هذه القيادات إلى السعي نحو إقرار قوانين تتضمن إصلاحات جذرية في المؤسسات الأمنية والقضائية، التي كانت أساسًا وراء اعتقال هؤلاء الأبرياء.

استمرار هذا الإخفاق والإصرار على إقرار هذا القانون أخذ هذه المرة منحى ساخرًا أكثر مما هو خاسر، ويتجلى ذلك في تصريح رئيس كتلة الصادقون النيابية، حبيب الحلاوي، الذي قال:”الشيعة المشمولين بالعفو راح تنفتح لهم البيبان ويطلعون، ولكن ولا سني مشمول بالعفو راح يطلع.”

هذا التصريح يعكس بوضوح حجم الإخفاق السني في هذه المقايضة السياسية، ويكشف عن التهميش المستمر للمكون السني في الصفقات السياسية المتكررة للمرة الثالثة على التوالي، بل إنه يعكس بوضوح التلاعب السياسي المستمر بهذا الملف، حيث لم تعد عواقب هذه المقايضات تقتصر على خسائر مادية أو سياسية، بل تجاوزتها لتشمل انعكاسات مجتمعية خطيرة تهدد السلم الاجتماعي، خاصةً أن القانون اشترط بتمريره قوانين أخرى لا تقل خطورة وتزيد من تعقيد الأزمة السياسية والاجتماعية في العراق، وكما يتضح من الآتي، حجم المخاوف التي تثيرها هذه القوانين:

قانون العفو العام بين الفرصة وتهديد المجتمع

لا أحد يعترض على منح الإنسان فرصة جديدة ليبدأ حياته من جديد، ولكن يجب أن تكون هذه الفرصة مدروسة بشكل جيد وعادل، فالقانون الذي شمل 74 فئة من الجرائم، من بينها قضايا متعلقة بالإرهاب مع إمكانية إعادة المحاكمة، بينما تتجه الجرائم الأخرى البالغة 72 نحو العفو المباشر، تتنوع بين القتل العمد، وهتك العرض، والاعتداء على الأطفال، وانتهاك حرمة القبور، والاختطاف، والرشوة، يعكس ازدواجية غير مبررة، خاصةً أن غالبية هذه الجرائم تمثل اضطرابات نفسية أو سلوكيات منحرفة يصعب معالجتها بسهولة.

إلا أن المشكلة لا تتوقف عند طبيعة هذه الجرائم أو الازدواجية التي تحيط بها، بل تمتد إلى ما يحدث داخل السجون العراقية التي تجاوزت نسبة الاكتظاظ فيها 300% هذا الاكتظاظ حوّل السجون إلى بيئة تُنتج مجرمين أكثر خطرًا مما كانوا عليه قبل دخولهم، حيث أصبحت السجون تُعرف بأنها مدارس إجرامية بدلًا من كونها مؤسسات إصلاحية، هذه الحقائق تتكشف من خلال التقارير والمقاطع المسرّبة بين الحين والآخر من داخل السجون.

في المقابل، تؤكد النظريات الاجتماعية والنفسية على أهمية إعادة تأهيل السجناء وضمان إدماجهم في المجتمع بطريقة فعالة، لكنها تحذر من أن غياب برامج الإصلاح يجعل من المجرمين قنابل موقوتة بمجرد إطلاق سراحهم، وفي مراجعة شخصية للدراسات والإحصاءات العالمية التي قمت بها أثناء كتابة هذا المقال، لاحظت أن هذه الدراسات تشير بوضوح إلى أن أغلب الجرائم المشمولة بالعفو العام يُعاد ارتكابها بنسبة تصل إلى 35% في دول تطبق برامج إصلاحية فكيف الحال في العراق حيث لا توجد أي برامج تأهيلية.

وتتعقد الإشكالية أكثر عندما نعلم أن القانون لم يتضمن أي إجراءات رقابية أو عقوبات رادعة تُضاعف على من يُعيد ارتكاب الجرائم، فلم يراعِ القانون ضمان تعويض عادل للضحايا أو توفير مشاريع صغيرة للسجناء تتيح لهم فرصة للعمل والكسب في ظل انهيار اقتصادي وارتفاع معدلات البطالة، إضافة إلى التوترات السياسية التي تحيط بالعراق والمنطقة، حيث ان هذه الظروف تجعل من الصعب على هؤلاء السجناء إعادة الاندماج في المجتمع، مما يتركهم معرضين للعودة إلى الجريمة.

للأسف، لم يضرب القانون بعرض الحائط كل المبادئ والنظريات الاجتماعية والنفسية والتجارب الاصلاحية بل ضرب المجتمع العراقي بأكمله، وتركه يواجه نتائج كارثية ستظهر قريبًا في ارتفاع معدلات الجريمة وانعدام الأمن، والمؤسف جداً انه برغم من توفر إمكانات بشرية في مؤسسات الدولة ومنظمات المجتمع المدني يمكن الاستعانة بها في إعداد برامج تأهيلية لهؤلاء المساجين لإعادة اندماجهم في المجتمع، إلا أن المؤسسة التشريعية تغافلت عن هذا الأمر، فالعامل السياسي على ما يبدو هو الأهم لديهم.

قانون العقارات خطر التهجير الديموغرافي

بتصريح واضح، كشف المجلس العربي في كركوك عن انعكاسات خطيرة لقانون العقارات الجديد، حيث صرح عضو المجلس عزام الحمداني بأن قانون إعادة العقارات الذي صوت عليه البرلمان سيؤدي إلى تهجير نصف مليون شخص من المحافظة، مما يهدد السلم المجتمعي فيها. فيما أكد المجلس العربي في بيان له أن القانون المقر يتيح مصادرة 116,856 دونمًا من الأراضي الزراعية، لتُمنح لفئة قليلة تدّعي أنها متضررة من قوانين الإصلاح الزراعي والتوسع الحضري قبل عام 1979. مُلفتًا البيان إلى أن العديد من هذه الفئة سبق أن تم تعويضها عند الاستملاك، وبعضها فشل في إثبات صحة ادعاءاته أمام هيئة دعاوى الملكية. وبحسب الوثائق الرسمية، فإن هذه الأراضي بالأصل مملوكة للدولة العراقية، التي منحت حقوق التصرف فيها لأفراد في وقتها.

لكن بعيدًا عن تفاصيل الادعاءات سواء من العرب أو الكرد أو الحكومة المركزية في بغداد، فإن حل هذه النزاعات الحساسة لا يمكن أن يتم بقرارات تشريعية فوضوية توضع في سلة قوانين قائمة على المحاصصة، بل يتطلب ذلك آليات وإجراءات أكثر عدالة وشمولية كاللجوء الى مبادئ العدالة الانتقالية والعمل على وتشكيل لجان دولية أو وطنية للتحقيق في التفاصيل وسياقات الملف، ومن ثم وإجراء جلسات مفاوضات طويلة تعيد الحقوق لأصحابها، وتضمن تعويض المتضررين بشكل عادل.

الا ان الحاصل هو فوضى في الإقرار قد لا تقتصر على إحداث تغيير ديموغرافي فحسب، بل ستمتد إلى تأثيرات أعمق، تُهدد السلم المجتمعي وتُعزز حالة الانقسام، والمفارقة الجديرة بالذكر هنا هو أن الإطار التنسيقي بكل أدواته الإعلامية، تجاهل عمدًا انتقاد هذا القانون، بل ألمح البعض منهم بشكل واضح إلى أحقية إصلاح الواقع الديمغرافي في كركوك، ولكن الغريب أن الإطار نفسه، ومنذ الاحتلال الأميركي للعراق، تبنّى مواقف مناقضة تمامًا تجاه قضايا التغيير الديموغرافي في ديالى، وصلاح الدين مؤخرًا، وحتى في الأنبار، حيث أظهر ازدواجية لافتة في التعامل مع هذه الملفات، وعلى الجانب الاخر تبدو ان الازدواجية هنا أكبر لدى القيادات السنية التي تحمل شعار المظلومية السنية، فبينما يطالبون بأراضٍ مثل العوجة وجرف الصخر، فإنهم يتنازلون عن مناطق واسعة ويتجاهلون مصير الآلاف من أبناء المكون السني في كركوك. 

للأسف، إن إقرار هذا القانون في الوقت الحالي، في ظل ما شهدناه من تجارب مريرة في الصراعات الديمغرافية في كركوك في أعوام 2003، 2008، وحتى 2017، لا يدعو للتفاؤل فالإصرار المتواصل من قبل إقليم كردستان على تكريد المحافظة قد يدفع الوضع إلى حافة الانفجار في المقابل هناك تمسك وجودي من قبل العرب بالبقاء، مما يرفع احتمالية حدوث صدامات بين الأهالي إذا لم يتم احتواء المشهد بشكل مدروس، يضاف إلى ذلك تساؤل جاد حول تصريح المجلس العربي بشأن مصير نصف مليون إنسان مهددين بالتهجير في حال تطبيق القانون، والأخطر من ذلك، إذا لم تصاحب هذا التحول الديمغرافي إجراءات فعالة لمعالجته، فإن مصير هؤلاء السكان يبقى مجهولاً.

قانون الأحوال ملامح مذهبية تهدد الاسرة والمجتمع

باختصار، ينص قانون الأحوال الشخصية على أن المحكمة المختصة في مسائل الأحوال الشخصية يجب أن تطبق مدونة الأحكام الشرعية، مما يضع القضايا أمام محاكم خاضعة لمرجعيات مذهبية مختلفة، هذا يعني أن قضايا الأطفال والميراث والأسرة والحقوق الأخرى ستخضع لاجتهادات رجال الدين بدلاً من القوانين والمحاكم المدنية. الأمر الذي قد يؤدي إلى تعارضات مع المبادئ الطبية والنفسية والاجتماعية نتيجة تطبيق هذه الاجتهادات، كما أن المسؤولين عن هذه المدونة هم موظفون ورجال دين من مؤسسات الأوقاف السنية والشيعية، بالتالي غير مؤهلين لاي دور تشريعي معاصر.

القانون يتناقض بشكل واضح مع القيم الإنسانية والحقوقية، ويترك آثارًا صحية ونفسية سلبية على النساء، خاصة القاصرات، ويساهم في ترسيخ ممارسات اجتماعية ضارة، هذه الممارسات لا تضر المرأة فقط، بل تؤثر سلبًا على المجتمع ككل بحسب تقارير هيئات ومنظمات دولية عديدة منذ الإعلان عن المقترح في عام 2014.

المخاوف لم تتوقف الى هذه الحد تجاه إقرار هذا القانون انما ذهبت العديد من التيارات المدنية التي تعارض هذا القانون بانه مشروع مذهبة الدولة يهدف الى تعزيز دور المؤسسات الدينية وتكريس الطائفية الدينية اجتماعيا مما يوفر للسلطة الحاكمة ورجال الدين تحكما أكثر في المجتمع لضمان الولاء السياسي، فيما اتهم اخرون ان الهدف من هذا القانون لا يقتصر على مذهبة الدولة سيما إذا ما اقترنت في سياق أوسع لقوانين او قرارات سابقة انما لتكريس نفوذ إيراني في العراق عبر التشريعات والمؤسسات الدينية، مما يهدد السلم المجتمعي في العراق ككل.

ختاماً، في وقت لا تزال فيه الجهود الإنسانية مستمرة من قبل المنظمات الدولية والمحلية لإعادة دمج العوائل النازحة جراء سيطرة داعش، أو العوائل العائدة مؤخرًا من مخيمات الجدعة، فإن هذه الجهود تواجه تحديات ضخمة نتيجة تعقيد عملية الاندماج وارتفاع التكلفة البشرية والمالية لتحقيق الاستقرار والاندماج.

تأتي القوانين الثلاثة لتزيد المشهد تعقيدًا وتعمق من تهديد التماسك المجتمعي، خاصة في غياب إجراءات واضحة لمعالجة انعكاساتها، حيث قانون العفو العام يُظهر بوضوح افتقاره إلى أي خطط فعالة لضمان دمج الآلاف الذين سيخرجون من السجون في المجتمع. بالإضافة أن قانون العقارات في كركوك قد يتسبب في تهجير العديد من العوائل، مما يفتح الباب أمام نزاعات محتملة بين السكان الأصليين والعوائل المُهجّرة، وفيما يزيد هذا التعقيد هو قانون الأحوال الشخصية، الذي قد يؤدي تطبيقه وفق اجتهادات فقهية مزاجية إلى شرعنة ممارسات ضارة لا تقتصر على الأسرة فقط، بل تمتد إلى المجتمع بأسره فهو بشكل او بآخر، يُسهم في تكريس الطائفية ويعيدنا إلى الكهونتية.

أقرأ أيضا