صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

مجتمع الهوسة

الهوسة، مصطلح يستعمل لوصف رقصة فلكلورية شائعة في المناطق الريفية ولها جذورها البدوية، وهي عبارة عن تجمع لافراد العشيرة يتحركون فيه بشكل حلقي ملوحين بعباءاتهم الى الاعلى تعبيرا عن حماستهم لموقف ديني، عشائري، سياسي او ترحيبا بضيف او حزنا على فقيد، وتلقى فيها الاشعار التي تبرز فيها المبالغات والتهويلات، وتتنوع حسب الموقف، والشيء المثير في الهوسة انها تلقائية عفوية، اي انها لا تجري بشكل منضبط سوى ان المشاركين فيها يتبعون ايقاع البيت الاخير من الشاعر / المهوال ويرددون معه ويرقصون، كما لا يحتاج فيها الفرد اذنا من احد ليشارك اقرانه الرقص والاندماج بحرارة مع الحماسة الهوسية.

والهوسة هي المعادل اللغوي لكلمة الفوضى، فاذا اردنا ان نعبر عن ظاهرة غير منتظمة او مكان فوضوي، بعين نقدية اطلقنا عليهما مصطلح الهوسة، وهكذا اصبح العراقيون يستعملونه في حياتهم اليومية للتعبير عن كل شيء لا نظامي يرونه شاخصا امام انظارهم، والمفارقة العجيبة انهم مشتركين فيما ينتقدونه من ظواهر يومية، كالبيت والشارع والدولة والحزب والمدرسة والسوق والدائرة.

والمتتبع لاوضاع العراق يجد الهوسة في كل شيء، لان كل شيء لا يخضع للنظام والعقلانية، بشكل يشبه كثيرا الرقصة الهوسية، اننا نتمثل الهوسة العشائرية في اغلب سلوكياتنا دون ان نعي بذلك: اذا دخلنا في حديث مشترك ينقلب الى شجار وتتعالى الاصوات، واذا دخلنا السوق (نتهاوس) مع البائع على سعر البضاعة، ولدينا (هوس) في بتر العلاقات مع الاخرين لاقل زلة، ويتبعه الهوس في الكبرياء والانف المتعالي بعدم الاعتذار، وسائقي المركبات في الطرق هوستهم معروفة بالتخبط وتجاوز القانون والاشارات المثبتة، واذا دعاهم شرطي المرور الى احترام القانون لعنوه وشتموا والديه وانهالوا عليه بالضرب كما يحدث ذلك كثيرا، وهل نتساءل عن الدوائر الحكومية والفوضى الخلاقة للهوسة البيروقراطية التي يتململ منها حتى الانبياء لو مارسوها معنا، واذا دخلنا الانتخابات سرعان ما تتحول الى معركة وجدال محتدم حول بنود الدستور والكتلة الاكثر عددا، واذا دخل السياسيون في البرلمان نتعرف على الهوسة بابهى صورها ومضامينها المعاصرة، فتعلوا الهوسات حول القوانين المشرعة ومن ثم تتحول تلك الهوسات الى قذف وشتم واشتباك بالايدي.

المجتمع العراقي يتخبط في هيمنة اي عنصر من عناصر الضبط الاجتماعي التي تتحكم في سلوك الافراد وهي الدين والدولة والعشيرة، اي الحرام والقانون والعرف، فلا نعرف تحديدا من هو العنصر المهيمن لان امتزاج هذه العناصر تجعل المجتمع في حالة لانظامية تشبه تماما الهوسة، خذ مثلا اذا ساءت العلاقة بين طالب وتلميذ في المدرسة او الجامعة.

ان السياق الواجب تنفيذه هو الاحتكام للقانون الاداري الذي يضع ثوابتا لايجوز لاي منهما تجاوزها، لكن الامر يتم تجاوزه فعلا بحيث تسمح ادارة المدرسة والجامعة للعرف العشائري والديني بالتدخل لحسم المسألة، وهكذا الامر مع الجرائم واعمال الفساد ومخالفة القانون في الطرق والمستشفيات وجميع مفاصل الحياة. نجد اننا مظطرين بحكم سجيتنا التي نشانا عليها منذ الصغر الى ان ندخل رجل العشيرة او رجل الدين في حقول الدولة كي نريح انفسنا من اعباء القانون وحل المشكلة بالتراضي وحينها يتم ضياع الحقوق بدفع الاموال / الديات والفصول او التنازل اكراما للسيد او الشيخ.

وهذا نوع من السلوك سبق وان عالجه ماكس فيبر بعنوان السلوك التقليدي الذي لايحتكم الى الوسيلة والغاية المتوخاة في السلوك العقلاني، وهي مشكلة عويصة في ظل انخراط المجتمع مرغما في اتون التغيرات الحاصلة في المجتمع العالمي،بحيث تجد تنافضا واضحا بين الاستهلاك الحديث للتكنلوجيا المعاصرة وبين التراجع في استخدام العقلانية وقيم الحداثة.

أقرأ أيضا