لو يعلم اليساريون العراقيون، أنهم رغم قلة عددهم، وضعف مواردهم وأدواتهم، يمثلون الحل (الوطني) الأقرب إلى المنال والتحقق والقدرة على الاقتراب ومسك الجمرات الملتهبة للمعضلات الوطنية، وما ينقصهم هو وضوح الرؤيا والثقة بالنفس وتغيير زاوية النظر، فاليسار العراقي ورغم كل شيء، نقصد التضحيات والقمع والسجن والنفي، ليس في حالة (إنكار) من قبل خصومه، الإسلاميين أو القوميين أو غيرهم، هناك حالة من (التهوين) والتقليل من التأثير، وهو صراع مشروع إلى حد ما، ولطالما احتمى (البعض من هذا اليسار) خلف هذا (التهوين)، وإذا ما كانت الصراعات السياسية هي محصلة التقاطعات للأوزان النوعية للقوى المتصارعة أو المتنافسة، فعلينا الاعتراف أو بشكل أدق التخلص من وهم (يسارية المزاج العراقي العام)، فالعكس هو الصحيح، الخرافة والتخلف والفكر الغيبي وحتى كراهية العمل الغيري أو السخرية منه، هي السمة والملمح الأقوى للشعب العراقي، لكن تهافت وسرعة احتراق البرامج الإسلاموية والقومية، مقابل المطاولة التي تستحق التقدير قبل الدراسة عند (اليسار العراقي)، تركت فراغاً في فضاء الحلول، أمام التعّقد المركب للأزمات النوعية الوطنية، ما يدفع بهذا اليسار إلى الريادة، تلك الريادة التي لا يريدها (وتلك مفارقة)، أو يخشاها، وجذور تلك الخشية، هي قصور نظري، رافق هذا اليسار منذ البواكير والبدايات، والنقاط التي سنذكرها، هي بعد مرور عام على جهود، اشتركنا فيها، لتوحيد أو تنسيق (الجهد اليساري) والتي انتهت، على الأقل مؤقتاً، إلى طريق مسدود، يتمثل بعدم الاعتراف، إن لم نقل التعويق، لخوف هذا (اليسار) من مواجهة نفسه:
أولاً : لابد علينا في البدء طرح رؤيتنا البسيطة عن الشكل الأمثل لـ(تحشيد) قوى اليسار العراقي، فبعد مرارة التجارب التي مر اليسار العراقي بها، ومن خلفه التجارب العالمية، وما آلت إليه من انهيار النظم (الاشتراكية) وتشرذم الأحزاب الشيوعية ، وفقدانها لتأثيرها ،وأهميتها ، علينا القبول بحقيقة بسيطة ،مفادها، أن حزباً واحدا، سيكون أكثر من كافٍ لتمثيل اليسار العراقي، ومن الأفضل أن يكون الحزب الشيوعي العراقي الحالي، هو هذا الإطار المقصود، بعد تغيير نظامه الداخلي، وبرنامجه، وتأهيل قيادة تكون معنية بإعادة اتخاذ مواقع جديدة في الخارطة الوطنية، مع كل ما يعني هذا من تغيير في الشعارات والتكتيكات والوجوه وبقية مستلزمات النضال.
ثانياً: من المفروض أن يكون هذا الإطار الذي اقترحنا ، محافظاً على التنوع ، الذي أدار اليسار العراقي والآخر (العالمي) ظهره له طويلاً ، على الرغم من أن هذا التنوع هو سر قوته أو على الأقل مفترق الطريق مع الفاشيات والأيديولوجيات الشمولية ، والمفارقة ، أن هذا التنوع موجودٌ عند قيادة الحزب الشيوعي ، ليس كتقليد نضالي ، ولكن كإدراك للحظة (الماركسية) الراهنة ، فيما ترزح قواعد الحزب تحت تنويم النسخة القديمة من الشيوعية الستالينية ، تغذيها نزعة للتوظيف واللهاث وراء (الراتب) ،في حزب كان من أعرق تقاليده هو العطاء والبذل و(التفرغ) الحزبي بدون أجر ، فالتنوع يغدو بلا معنى أمام غياب التقاليد النضالية .
ثالثاً: خارج فضاء الحزب الشيوعي ، متقاطعاً معه ، هناك التجمعات والأحزاب الأخرى ،الماركسية والشيوعية ، والتي أصبحت (بصراحة) عائقاً بدلاُ من الحل ، فهي تخشى العمل الجماعي أو الانخراط في هيئات تنسيقية ، مخافة انكشافها ، أو انسياقها في أجندات (يساروية دولية) أو تسمرها قبالة ماضوية شيوعية ، لم تعد موجودة حتى في المتاحف ، وغيرها التي تبنت البذاءة السياسية بديلاً من النقد والتفكيك ، هذه المجموعات ستبقى موجودة كعامل كف وإعاقة ، وستفقد من وزنها النوعي ، شيئاً فشيئاً ، ولا شك دائماً هناك استثناءات ، لكنها تبقى قليلة التأثير للأسف .
رابعاً: يبقى الثقل الحقيقي ، متمثلاً ، باليساريين (المستقلين) ،وهم غير المنتمين لحزب ما ، أو تركوا الحزب الشيوعي أو بقية التجمعات اليسارية، وكذلك المنسلخين من التيارات القومية وغيرها ، والأهم النشء الجديد الذي تلمس طريق اليسار ولا يعرف ما هي وجهته ولا ماذا يفعل ، في غمار الجلجلة السياسية العراقية المخضبة بالدم والقمع ، وهؤلاء بطيئون في استجابتهم وحركتهم وثقتهم بالعناوين الموجودة ، ولديهم بالمقابل سليقتهم السليمة ، حيث لا يستسيغون التفاعل مع الفعاليات الفارغة أو التي بلا طعم ولون ، وهم البنك الحقيقي لليسار ، بل والشعب العراقي نفسه ، بما يتوفرون عليه من ثقافة وكفاءات وقدرة على العطاء ،مضمرة ، تم تجريب البعض منها ، وأكثرها في الانتظار ، وهؤلاء سينتظرون العمل الجاد ،حينها سيذهبون إليه أفواجاً…
خامساً: حتى في أعوام السبعينات ، عندما كان الحزب الشيوعي متحالفاً مع البعث في إطار الجبهة الوطنية ، كان هناك عامر عبد الله ومكرم الطالباني ،وكذلك ستار خضير وشاكر محمود ، ما أعنيه هو عدم جواز قيادة الحزب الشيوعي من (موظفين في الدولة) ، أعضاء مجلس نواب ، أو أعضاء مجلس حكم أو وزراء أو نواب وزراء ، أو مستشارين لرئيس الجمهورية أو غيره ، فهذا يٌسمى (تضارباً في المصالح) ، بالإمكان الاحتفاظ بهؤلاء (الكفاءات) مع عضويتهم ، لكن مع تنحيهم عن سدة القيادة (مؤقتاً) وإبراز القياديين غير المتبوئين لمناصب (كبيرة) في الدولة، لأن جوهر الحزب الشيوعي وكينونته تكمن في المعارضة ، حتى تحقيق الدولة الاشتراكية أو (العادلة) في أقل تقدير.
سادساً: بالأمس ظهر الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني ،حنا غريب ، وهو يقود جمهوراً متنوع المشارب ، فلسطينيين لبنانيين يساريين وإسلاميين ، على أبواب السفارة الأمريكية في عوكر (اللبنانية) ،ليخطب خطاباً فصيحاً واضح المعالم والأهداف ، ما يدفعنا للمقارنة بين حال اليسار اللبناني وقرينه العراقي ، فلطالماً كان الحزب الشيوعي العراقي مثالاً وقدوة للشيوعيين اللبنانيين ،لجهة التضحيات والهيمنة على الشارع ، وعلى الرغم من ظاهرة تدني أو حتى انعدام التنظير الفكري لليسار العراقي ، مقارنة باليسار اللبناني ، لكن التقاليد النضالية لليسار العراقي ، كانت ملهمةً لليسار اللبناني وغيره ، وبالأمس ،عندما كان حنا غريب يقود الأعلام الحمراء والأعلام الفلسطينية لتغطي الأفق الأمريكي المعتم ، كان السيد رائد فهمي مع بعض أركان حزبه ، يقومون بزيارة لحزب (الاتفاق) من أجل بحث الشأن السياسي وواقع الانتخابات، ما يعكس متاهة اليسار العراقي وفي مقدمته الحزب الشيوعي ، إذ لا يعرف قيمته ولا يعرف مع من يتحالف ، ولا أين وجهته ، أيها الرفيق أبا رواء ، هؤلاء بالونات سياسية فارغة انتهازية ، منفوخة بالمال السياسي الحرام ، ولا وزن لهم ولا يعرفهم أحد ، ورغم ذلك ،فهم سيطيرون من بين يديك ،حين يجد الجد، ليتحالفوا مع الأوزان الثقيلة (السياسية) المعروفة بفسادها و(قوتها) ، وهذا يصح أيضاً على مشروع (تقدم) ، فما هو لكم ، هو لكم ، وجمهوركم الأقوى والأوسع والأكبر ينتظر وضوح برنامجكم وقيادتكم بعد حسمكم لوجهتكم، وتجاوز محنتكم.. فلقد طال أمدها…