كركوك ومنذ قيام الدولة العراقية وحتى يومنا هذا هي قضية معقدة ومثيرة للجدل في الساحة السياسة العراقية، وأبرز ما يفجر أزمتها بشكل مستمر هي الهوية التي يراد أن تفرض عليها من قبل الحكومات المتعاقبة دون إدارة أهلها.
ولأنها مدينة غنية بالنفط أصبحت نقطة خلاف بين الحكومة الاتحادية وحكومة الاقليم، حيث يزعم الجانبان بحقوق تاريخية في المدينة، حيث تصاعد الخلاف عندما أجرت الإدارة في الإقليم الاستفتاء المثير للجدل بشأن الاستقلال الكردي عام 2017 شمل الأراضي المتنازع عليها مثل كركوك، أدى ذلك إلى مواجهة بين حكومة الإقليم والحكومة الاتحادية، مما أسفر في النهاية عن استعادة القوات العراقية السيطرة على كركوك وغيرها من الأراضي المتنازع عليها.
منذ ذلك الحين، ظلت مسألة وضع كركوك وتداعياتها على الوحدة العراقية والطموحات الكردية قضية حساسة وغير محلولة. يرتبط مستقبل المدينة بقضايا أوسع تتعلق بتقاسم عائدات النفط وترتيبات تقاسم السلطة وحصص المكونات في العراق. إن الجهود الرامية إلى إيجاد حل دائم ومقبول من كافة الأطراف لمسألة كركوك ضرورية لاستقرار وتماسك العراق. من أجل معالجة مسألة كركوك بشكل فعال، من الضروري النظر في الديناميات التاريخية والسياسية والعرقية المحيطة بالمدينة.
إن قضية كركوك ليست فقط محل نقاش بين الجماعات العرقية المحلية أو بين الحكومة العراقية وحكومة الإقليم، بل إنها تتعلق أيضاً بالفاعلين الاقليمي والدولي. تظل مسألة كركوك محوراً رئيسياً في الساحة السياسة العراقية، ولدى الجهات الفاعلة دولياً ايضا، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الاميركية والدول المجاورة مثل تركيا وإيران. وهناك مصلحة كبيرة في حل قضيتها لتأثيرها المحتمل على الاستقرار العراق والمنطقة عموماً.
الوضع الحالي والمشاركة الدولية
إن الوضع المعقد لكركوك يعكس بلا شك التجاذبات السياسية والتنافس بين القوى الداخلية والخارجية. حيث إن نهج الولايات المتحدة تجاه كركوك يرتبط عادة بالاستقرار الإقليمي ومصالحها الخاصة. وقد يرى البعض بأن الولايات المتحدة قد رسمت وضع هذه المدينة بطريقة يمكن أن تؤدي إلى حرب عرقية في المستقبل. أما بالنسبة لتركيا، فإن كركوك لها أهمية تاريخية، بالإضافة إلى رغبتها في الحفاظ على وجود المكون التركماني في المنطقة، وأهميتها كمنطقة تمس أمنها القومي. في حين أن إيران تتبع استراتيجية مختلفة. إيران لا تنظر إلى كركوك كملف منفصل عن العراق ككل. من عام 2003 حتى ظهور داعش في عام 2014، كانت تحاول السيطرة على مناطق الجنوب، أي على النفوذ الشيعي. ومع ظهور داعش، تحول هذا الجهد -خصوصاّ بعد عام 2017- الى السيطرة على المناطق السنية في سط وغرب البلاد. من عام 2018 بدأت استراتيجية السيطرة على كركوك، و تسارعت ذلك مع بدايةً عام 2021. في هذا السياق، تتخذ طهران خطوات لإضعاف حكومة الإقليم؛ تفاقم المشاكل بين الاتحاد الوطني الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني، التدخل في ملف رواتب الموظفين، استهداف بعض النقاط مباشرة عبر صواريخ الباليستية وطائرات مسيّرة، والتدخل في انتخابات برلمان الإقليم المرتقبة.
كل هذه الأمور يتضح أن الاهتمام المتزايد لإيران ونفوذها في العراق، وخاصة في كركوك، يعكس رغبتها في الانخراط بشكل أكبر في الصراعات السياسية والعرقية في العراق وتعزيز سيطرتها الاستراتيجية على المنطقة. جهود إيران لزيادة نفوذها في المنطقة يمكن أن تخلق تأثيرات كبيرة على مستقبل المنطقة وقد تشمل كركوك كجزء من مجال تأثيرها المتوسع.
جميع هذه التفاعلات لها تأثير كبير على استقرار كركوك والعراق بشكل عام، ويجب أن تأخذ جهود الحل فهم مصالح وخطط وتأثيرات مختلف الفاعلين الداخليين والخارجيين، ويجب مراعاة دور كل منهم في تشكيل مستقبل كركوك.
انتخابات كركوك 2023
يقال بأن الانتخابات هي ضمان الديمقراطية، ولكن في الوقت ذاته هل الديمقراطية تحقق السلام أم لا. قضية كركوك تكاد تدحض هذه النظريات. منذ عملية فرض القانون عام 2017، ساد الهدوء في المدينة على الصعيدين السياسي والأمني. بالإضافة إلى ذلك، تسارعت وتيرة مشاريع الإعمار والتنمية في كركوك، مقارنة بالمحافظات الأخرى. بات اجراء الانتخابات المحلية امراً ضرورياً لان المدينة حرمت منها من عام 2005 بسبب التغيير الديمغرافي الذي طرأ على المدينة، والاصرار على التعامل معه كأمر واقع لابد منه. الأمر الأكثر غرابة هو رفض الأطراف المعنية إجراء الانتخابات المحلية في المدينة، في حين كان يتم إجراء الانتخابات البرلمانية. وهنا لسنا بصدد تسليط الضوء على هذا لاموضوع.
رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، أظهر منذ اليوم الأول لتشكيل حكومته إصرارًا على إجراء الانتخابات. اضافة إلى ذلك، أُضيف بنداً في خطة عمل الحكومة يشمل اجراء الانتخابات المحلية في كركوك. ولاحقاً، أُضيفت مادة خاصة بكركوك في قانون الانتخابات. وان اهم ما جاء في المادة 35 الخاصة بانتخابات كركوك: أن تقوم المفوضية العليا المستقلة للانتخابات بتدقيق سجلات الناخبين في المحافظة، ولا تعد نتائج الانتخابات أساسا لأي وضع قانوني أو إداري لتحديد مستقبل محافظة كركوك، وان يتم تقاسم السلطة بتمثيل عادل بما يضمن مشاركة مكونات المحافظة بغض النظر عن نتائج الانتخابات. هذه المادة هدأت مخاوف جميع الأطراف في كركوك بشأن الانتخابات التي ستُجرى بعد 18 عامًا.
“بعض الأطراف كانت تنتظر تطبيقها، بينما كان الآخرون واثقون بعدم امكانية تطبيقها.”
التركمان طالبوا دائمًا بمراجعة سجلات الناخبين قبل إجراء اية انتخابات. هذا الشرط تحقق في أصبح في المادة 35 الخاصة بكركوك في قانون الانتخابات. ومع ذلك، لا يمكن القول إن السياسيين التركمان أظهروا موقفًا حازمًا بشأن مراجعة سجلات الناخبين قبل الانتخابات. مما انعكس سلباً على نتائج الانتخابات. ناهيك عن ان التركمان لم ينجحوا في وضع ممثليهم في المفوضية العليا المستقلة للانتخابات في بغداد، ولا في مكتب انتخابات كركوك. لذلك، أُديرت العملية الانتخابية بالكامل من قبل ممثلوا الأكراد والعرب. اضافة إلى ذلك، فإن قلة المعرفة الكافية لدى التركمان بنظام الانتخابات (سانت ليغو 1,7) المعمول به، هذه العوامل مجتمعتاً أدى إلى ضياع أصواتهم وعدم حصولهم مما يتناسب مع حجمهم في المدينة داخل مجلس المحافظة.
ما بعد الانتخابات
بعد إعلان نتائج الانتخابات كانت هناك أرضية مناسبة ورؤية مشتركة للمضي بتشكيل الحكومة المحلية من تحالف يضمن 10 أعضاء (6 عرب، 2 تركمان، و2 من الحزب الديمقراطي الكردستاني) خصوصاً مع التطورات الإيجابية بين بغداد وأنقرة وعزل الاتحاد الوطني الذي يمتلك خمسة مقاعد، وخصوصاً إن الفقرة الثالثة من المادة 35 تنص على تشكيل حكومة محلية بمشاركة جميع المكونات؟ ولكن المفاوضون التركمان طالبوا ودعوا رئيس الوزراء للتدخل في حلحلة مسألة تشكيل الحكومة في كركوك. انتقال الملف الى بغداد عزز موقف الاتحاد الوطني المصر والمطالب بمنصب المحافظ لاربعة سنوات كاملة.
قانونيًا، كان هناك إمكانية تشكيل الحكومة المحلية من دون الاتحاد الوطني من قبل اطراف التحالف الذي يضم 10 أعضاء من اصل 16 عضواً لمجلس محافظة كركوك. على الرغم من أن الفقرة 3 من المادة 35 في القانون تنص على تشكيل حكومة بمشاركة جميع الأطراف بعد الانتخابات، إلا أنني لا أرى أن بقاء الاتحاد الوطني الكردستاني خارجًا يعتبر انتهاكًا لهذه الفقرة، لأن الحزب الديمقراطي أيضا يمثل الكرد.
من الواضح أن طهران، التي استطاعت ترسيخ نفوذها في مفاصل الدولة والتأثير في القرارات السياسية، لن تتسامح بأي شكل من الأشكال مع حكم الاغلبية وبقاء شريكها الاتحاد الوطني خارج هيكلية إدارة كركوك. هناك شواهد عديدة تثبت ذلك، منها الالتفاف على فوز القائمة العراقية بقيادة أياد علاوي سنة 2010، وفوز الكتلة الصدرية في انتخابات 2021. لذلك فإننا نرى ان نقل ملف تشكيل الحكومة المحلية في كركوك إلى بغداد لم تكن صائباً وأضاع فرصة كبيرة لولادة حكومة يكون فيها للتركمان حصة أكبر مما ستنتجه المفاوضات برعاية بغداد.
يبدو ان الوضع الحالي يناسب جميع الأطراف. العرب يتمسكون بالإدارة، والأكراد يفضلون هذا الوضع على أن يكون الطرف الآخر في السلطة، والتركمان راضون عن الاستمرار بهذه الطريقة لأنهم يعلمون أنهم لن يحصلوا على منصب المحافظ أو رئيس المجلس بمقعدين. ومن الجدير بالذكر أيضًا أن في المحافظة يتم توزيع المشاريع والاستثمارات على جميع الأطراف، مما يضفي مزيدًا من الرضا على الوضع.
بشكل عام، لتسوية قضية كركوك، يجب أن تقنع طهران بافل طالباني بفكرة الحكم المتناوب. ولكن في رأيي، إن إيران لا تبدو متحمسة لفكرة الحكم المتناوب، لأنه إن كان ولابد أن يكون الحكم بالتناوب بين أربعة أطراف (العرب، التركمان، يكتي، بارتي)، فإن ثلاثة منها قريبة من أنقرة، وواحدة فقط قريبة من طهران. لذلك فايران ستسعى جاهدا لعرقلة اية طروحات من هذا القبيل. واذا لم يتم التوافق بين جميع الاطراف على الادارة بالتناوب فان إيران ايضا مثل تركيا ترغب بإسناد منصب محافظ كركوك للعرب، ولكن نقطة الخلاف بينهما ان انقرة تريد عزل الاتحاد الوطني بشكل كامل عن ادارة كركوك، بينما طهران ترغب بمشاركته في الاِدارة كونها شريكها الاستراتيجي.
إذا لم تستمر تركيا في موقفها أو تطور استراتيجية أخرى، فمن المرجح أن يتم تداول منصب المحافظ بين العرب والاتحاد الوطني. في هذه الحالة، سيتم منح رئاسة مجلس المحافظة للتركمان، ومنصب نائب المحافظ للحزب الديمقراطي.
في حالة ما إذا لم تتوصل جهود التفاوض مع الاتحاد الوطني إلى نتيجة، فان السيناريو المطروح للتحالف المكون من 10 أعضاء أو الاتفاقية الثلاثية (العرب 6، التركمان 2، بارتي 2)، كي يمضوا قدماً ويعقدوا أول جلسة لمجلس المحافظة. في الجلسة الأولى، هناك طريقتان: الأولى هي الاقرار على تشكيل إدارة محلية دون مشاركة الاتحاد الوطني. والثانية هي عقد الجلسة الأولى من دون تشكيل الحكومة المحلية من اجل ان يفتح باب الترشيح لمنصب المحافظ، على أن تبدأ الفترة القانونية في العد التنازلي لانتخاب المحافظ خلال مدة 30 يوماً من تاريخ الجلسة الأولى. وفي حال عدم الوصول الى التفاهم يمكن حل المجلس بالأغلبية المطلقة لعدد الأعضاء بناء على طلب ثلث الأعضاء، ومن ثم الذهاب على اعادة الانتخابات المحلية في كركوك.
سيظل الوضع المستقبلي لكركوك وتداعياته الواسعه على وحدة واستقرار العراق يشكلان مصدر قلق متزايد لجميع الأطراف المعنية. ومع سعي العراق نحو ترسيخ العملية السياسية وإعادة الإعمار ما بعد النزاع، سيكون إيجاد حل مقبول من جميع الأطراف لمسألة كركوك ضرورياً لتعزيز مسار مستدام وشامل للمضي قدماً في البلاد.