مشاهد من واقع العمل في العراق

المشهد الأول.. موضة الخادمة

فرح أخي كثيرا حين وجد ضالته, فقد حصل أخيرا على خادمة نيجيرية لإعانة زوجته الموظفة و والدتي في البيت المكون من ثلاثة أفراد و طفل صغير , خادمة تعمل بجد على مدار اليوم دون أن تنبس بكلمة, فهي جاءت للعراق لكي تعمل و تعيل عائلتها المكونة من أم و أب و أخوة و أخوات و زوج و ثلاثة أطفال, كلفته هذه الخادمة خمسة آلاف دولار و هي مصاريف الاستقدام و رسوم الإقامة و عمولة الشركة الوسيطة التي استقدمتها وضمنت صحة أوراقها وشرعية دخولها للعراق دون أن يكون دخولها عن طريق التهريب أو بقصد السياحة أو غيرها, و بالطبع فأن هذا المبلغ لا يتضمن راتبها الذي يبلغ أربعمائة دولار أمريكي في الشهر عدا  مستلزماتها و مأكلها وملبسها و مسكنها اللائق و علاجها في حال مرضها و اصطحابها لمطعم أو نادي بين الفترة و الأخرى و تأمين وسيلة الاتصال اليومية بأهلها و أطفالها و زوجها وتحويل راتبها إلى عائلتها وغيرها, فهي تكلفه حوالي 600 دولار شهريا, وحين سألت أخي لماذا لا تستأجر خادمة عراقية لتساعدكم في البيت فهناك الكثير من النساء بحاجة لعمل و هن أولى من الأجنبية و الأقربون أولى بالمعروف؟ فأجابني, و هل تريدني أن أجلب بمصيبة للبيت؟ ألا تتذكر تلك المرأة التي كانت تعينكم في البيت و كم كنتم أنت و زوجتك تعطفون عليها و كم ساعدتموها؟!! حتى إنكم كنتم تجلسوها معكم على نفس المائدة و لم تقصروا بحقها قيد شعرة و بالنتيجة سرقتكم و هربت و حين أبلغت أهلها وطالبتهم بحقك هددوك بالعشيرة و قد تعرض الكثير مثلكم لنفس الموقف إن لم يكن أخطر؟!!!!

المشهد الثاني.. حسابات رب العمل المنطقية

أتصل بي صديق قديم عبر تطبيق الواتساب و تبادلنا التحيات والسلام واستذكرنا ذكريات الطفولة والشباب و وصل بنا الحديث للعمل فأخبرني بأنه أفتتح مطعما حديثا و كبيرا في مركز المدينة الجديد و إنه مرتاح في العمل, فالخير كثير والرزق وفير,  و المطعم على حد قوله منجم ذهب لكنه بحاجة إلى إدارة ناجحة و عمال مخلصين, ثم عرج على كيفية إدارته للعمل وتواجده في المطعم منذ الصباح الباكر حتى منتصف الليل لمتابعة سير العمل وإنه لا يخاف من عماله الأجانب الثمانين بقدر خوفه من عماله العراقيين المعدودين بالأصابع!!! استوقفتني هذه الجملة فقاطعته, عمال أجانب؟ ثمانون أجنبي يعملون في مطعمك؟ و هل وصل العراق لهذا المستوى الذي يتوافد عليه الأجانب للعمل بعدما كان بيئة طاردة بسبب الهاجس الأمني و المحددات الاجتماعية و غيرها؟ فضحك و قال نعم يا صديقي أجانب, فأنت لم تزر العراق منذ سنوات طوال ولا تعرف الحال, فاليوم تعتمد معظم مشاريع العراق الخاصة من مطاعم وفنادق و أسواق و محلات و خدمات توصيل وغيرها من المهن على العمالة الأجنبية و خصوصا الإيرانيين والباكستانيين و البنغال و الصينيين و الأفارقة و السوريين واللبنانيين والأتراك و هم يشكلون العصب الحيوي لسير الأعمال في العراق, فقلت له ولماذا لا تشغلون عمالا عراقيين خصوصا وإن هناك عشرات ألاف الشباب ممن يشكون البطالة و يتسكعون في المقاهي و ينامون للظهر ويأخذون مصرف جيبهم من أهليهم؟!! فضحك و قال, وهل تريدني أن أفتح باب جهنم علي و على عائلتي وعلى مصدر رزقي؟ وما هو مصدر التهديد يا صديقي؟ العامل العراقي قد يسرقك بطريقة أو بأخرى و لا يعمل بإخلاص و يتهرب من العمل بشتى الحجج و قد يدمر مشروعك في لحظة و يخسرك الملايين حين يستنكف أو يتقاعس عن أداء واجبه في خدمة الزبون أو حين يتفنن بتأليف شتى الأعذار و المبررات في الغياب ليتركك حائرا أمام زبائنك, و حين تطرده أو تقطع راتبه فإنه سوف يهددك بالعشيرة و ربما يصل التهديد بالانتقام منك أو من أحد أفراد عائلتك, أما هؤلاء الأجانب فهم يعملون بصمت دون كلل أو ملل أو شكوى أو تهديد و يتقاضون رواتب معقولة و راضين قنوعين بحياتهم بل يقدموا فضل ما عندهم حرصا على ما قسمه الله لهم في حين أن العراقي لو أعطيته أعلى الرواتب فإنه يبقى غير مقتنع و تبقى عينه على رزقك.

المشهد الثالث.. العراق بيئة عمل جاذبة وخصبة

التقيت بصديق على هامش زيارته لفرنسا للمشاركة في ورشة عمل أقامتها شرطة الانتربول الدولية, فحدثني عن طبيعة عمله في العراق, فهو يعمل ضابطا في دائرة الإقامة المسؤولة عن متابعة إقامة الأجانب الوافدين للعراق سواء للزيارة أم العمل و قادنا الحديث فوصلنا الى موضوع العمالة الأجنبية فأخبرني بأنهم يعملون ليل نهار للحد من هجرة ألاف العمال الأجانب للعراق بطرق غير شرعية فمنهم من يأتي أثناء الزيارات الدينية ومنهم من يدخل العراق عن طريق التهريب و منهم اللاجئين الذين دفعتهم الحروب للهجرة مثل السوريين وهم جميعا ينوون العمل خصوصا وإن العراق صار اليوم بيئة خصبة لفرص العمل, فالمشاريع الخدمية صارت بالآلاف و جميعها بحاجة إلى أيدي عاملة والحاجة للأيدي العاملة مستمرة في بلد ينعم أهله برخاء نسبي لا سيما طبقة الأغنياء الجدد و الموظفين الحكوميين وأصحاب المشاريع الفردية, و أسترسل قائلا; مع إننا نلقي القبض على مئات المخالفين يوميا و نسفرهم لبلدانهم ونحاسب أرباب العمل لكنهم يعودون مرة أخرى متى ما سنحت الفرصة لهم, أما عن طريق التهريب أو عن طريق استغلال الزيارات المليونية أو قد يعودون للعراق بطرق شرعية من خلال الحصول على دعوات عمل أصولية لأنهم حسبما يقولون أثناء التحقيق بأن العراق أفضل بلد للعمل من حيث سعة العيش و الأمان و الراحة و التعامل الحسن و حرية الحركة و حفظ الحقوق, فأكلهم من أفضل ما يكون و مسكنهم مجاني ومريح و حقوقهم مضمونة و رواتبهم عالية مقارنة بمستوى المعيشة البسيط في بلدانهم و لا توجد مشاكل مع  أرباب العمل فالعراقيين عطوفين رحماء في التعامل مع الغير مقارنة بالخليجيين الذين يتعاملون مع الأجراء الأجانب بغاية القسوة و إن ما يتقاضوه من رواتب صافية تجعلهم من الأغنياء في بلدانهم.

المشهد الرابع.. هل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟

أعتذر لي صديقي الصيدلي كثيرا لعدم الرد على مكالماتي الأخيرة له لانشغاله بالدعاوى القضائية والجلسات العشائرية والمفاوضات التي سببت له إرباكا في عمله و انعكست على علاقاته الاجتماعية, فقد اكتشف بأن المحاسب الذي يدير مذخر الأدوية الكبير الذي يملكه كان يسرقه وقد سرق منه أموالا طائلة بطرق خبيثة متلاعبا بالقوائم و الكميات التي يستلمها ويسلمها رغم إن هذا المحاسب كان يحصل على راتب شهري لا يحصل عليه أفضل موظف في الحكومة إضافة إلى المكافئات و السلف الميسرة و الإكراميات التي كان يحصل عليها لكن النفس الأمارة بالسوء سولت لذلك المحاسب السرقة دون وازع أخلاقي او تأنيب للضمير وقد فرغ صاحبي أخيرا من هذا الموضوع المزعج بعدما انتهت الدعاوى بسجن المتهم دون أن يحصل على نقوده التي سرقها المحاسب لأن هذا الأخير قد صرفها في صالات الملاهي و في أماكن المجون و الدعارة و ليس لديه مالا ليعيده, و قد ندم صاحبي ندما شديدا لأنه لم يعين محاسبا أجنبيا و إنه عين هذا الرجل لأنه يعرفه و يعرف عائلته و أراد مساعدته لكن جزاء الإحسان كان الإساءة و كان بإمكانه الاعتماد على محاسب أجنبي منذ البداية خصوصا و إن معظم زملائه في المهنة قد عينوا موظفين و عمال أجانب, لأن العامل الأجنبي مسيطر عليه بالكامل و لا يستطيع التلاعب أو السرقة و يعمل ليل نهار بمرتبات أقل من مرتبات الموظف العراقي الذي قد بات و للأسف غير موثوق فيه بينما يعمل الأجنبي بكل إخلاص و أمانة حرصا على مصدر رزقه و رزق عائلته التي تغرب لأجلها.

المشهد الخامس.. ضريبة الهجرة

تعرفت على شاب عراقي عشريني قد وصل عن طريق قوارب التهريب إلى أوربا قبل ثمان سنوات حين كان في الثامنة عشر من عمره و قد قضى تلك السنوات الثمان متنقلا من بلد اوربي لأخر دون أن يحصل على فرصة للإقامة حيث رفضت طلبات إقامته في كل الدول التي حاول الاستقرار بها و وصل حديثا إلى فرنسا عسى أن يستقر فيها و قد أبدى فرحه الغامر لأنه حصل أخيرا على عمل (بالأسود) أي عمل غير معلن و هو بالطبع مخالف للقوانين الأوربية و يتحمل العامل و صاحب العمل المسؤولية الكبيرة إذا علمت سلطات العمل بأمرهما لكن بعض المغامرين من أرباب العمل يلجئون لهذه الوسيلة كي يدفعوا مبالغ رمزية للعامل و لكي يتهربوا من تكاليف الضمان الاجتماعي الباهظة, وحين سألته عن طبيعة العمل أجابني بأنه يعمل بقطف الفواكه في إحدى المزارع البعيدة عن المدينة و أنه يتقاضى خمسة عشر يورو في اليوم بعمل مجهد يبدأ مع خيوط الفجر الأولى و ينتهي بغروب الشمس لا يتمتع فيه سوى  باستراحة غداء لساعة واحدة تتضمن فنجان قهوة و سندويتش صغير لا يشبع و لا يسمن وينام مع مجموعة أخرى من العمال في زريبة بائسة حورها صاحب العمل لتكون مناما لهم!!!  وإنه يتأمل الحصول على الإقامة إذا حالفه الحظ كي يحصل على المساعدات الاجتماعية التي لا تزيد عن هذا المبلغ, وحتى لو حصل على الإقامة وتوفرت له فرصة العمل فإن العمل في أوربا صعب جدا لمن لا يحمل مؤهلا مهنيا أو شهادة معترف بها تدعمها لغة قوية و في كل الأحوال, إن حالف الحظ هذا الشاب و حصل على فرصة عمل فإنه سوف يبقى محددا بقوانين العمل الصارمة لكي يحصل على الراتب الذي قد يكفيه لاستئجار أستوديو صغير و يوفر له وجبات الطعام البسيطة حتى يتحول بمرور الزمن إلى قطعة في ماكينة العمل ليجد نفسه و قد بلغ به الكبر ليكتب في وصيته إن مت إدفونني في العراق!!! 

 تتعدد المشاهد في بلد الخير الذي يشكو أبنائه بمناسبة و بغيرها من سوء الحال و عدم توفر فرص العمل و يقضي الواحد منهم معظم وقته في التسكع من الصباح حتى المساء في المقاهي, يحمل في يده اليمنى (قمجي الناركيلة) و يحمل في يده الأخرى جواله و عيناه متسمرتان على  شاشته طول الوقت ليتمتع العامل الأجنبي بخيرات العراق, فالعراقي لا يقنع أبدا برزقه و هو شكاء بكاء في كل الأحوال, يندب سوء حظه في كل دقيقة و حين يحصل على فرصة العمل تراه يستخدم شتى الوسائل للتملص من واجباته, أما إذا هاجر خارج بلده فتجده يعمل بصمت في أكثر الأعمال بؤسا وشقاء و وضاعة و يرضى بأقل الأجور.

أقرأ أيضا