صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

مشرب الشاي تحت ضوء القمر

عندما كنت أصور فيلمي “المغني” في مدينتي “البصرة” كان يعيقني غياب الكهرباء، وإحلال المولدات الكهربائية بديلا عنها، حيث كان ضجيج صوت مولدات الكهرباء في الشوارع والبيوت يحول دون تمكني من تسجيل أصوات الممثلين بشكل نقي! فصرت أهاتف مدير الكهرباء في البصرة أن يمنحني في كل ضاحية أصور فيها، ساعتين من الكهرباء تنطفئ فيها المولدات حتى أنفذ مشهداً سينمائياً واحداً.

وكنت مصراً أن أنجز الفيلم مهما بلغت الصعوبات! بعد أن أنهيت تصوير الفيلم، وغادرني الممثلون، تجولت وحدي في مدينتي “البصرة” بعد غياب واحد وثلاثين عاماً، وكان علي بالتأكيد أن أزور صالات السينما، والصالة التي شاهدت على شاشتها فيلم “مشرب شاي قمر أغسطس” هذا الفيلم المقتبس عن رواية “فيرن شنايدر” المعنونة مشرب شاي قمر أغسطس” والتي أقتبس عنها جون باتريك مسرحية تحمل نفس الإسم وأخرجها للسينما دانيال مان، بطولة مارلون براندو وجلين فورد وماشيكو كيو.

صالات السينما في مدينتي أصبحت، بين صالة مهدمة بالكامل وبين صالة تحولت إلى مخزن للأثاث البلاستيكية، وبين صالة صارت بقايا بناء أتخذ عمال السينما من زواياه المهدمة، مكانا لبيع اللحم المشوي، أو لبيع الشاي ليلاً.

 بقايا الصالة هذه، هي التي شاهدت على شاشتها “مشرب شاي قمر أغسطس” الفيلم الذي ترك متعة عندي منذ أيام الصبا لايزال طعمها ماثلا في وجداني.  وقفت أمام الصالة المهدمة مثل شخص أستيقظ من منام مرعب!

وقفت أمام الصالة. ثمة غرفة صغيرة كان يجلس فيها بائع التذاكر. فيها شباك صغير، كنا نمد يدنا وفي كفنا سبعين فلساً يأخذها بائع التذاكر، ونأخذ منه تذكرة، تسمح لنا بدخول صالة يعمها الظلام وتنار شاشتها بالضوء لنشاهد عليها “مشرب شاي قمر أغسطس”

كان في داخل غرفة بيع التذاكر، رجل بلحية بيضاء خفيفة، وهو يطبخ الشاي.

لم تكن غرفة بيع التذاكر كاملة الجدران!

سألت نفسي عن أبعاد اللعبة وغرابتها حقاً. وكنت أبحث عمن يفسر لي المعادلة.

الذين صنعوا السينما في أمريكا هم الذين هدموا صالات السينما في العراق!

والذين أطفأوا الكهرباء في العراق هم الذين أضاؤها في أمريكا!

وقفت أمام صالة السينما. تطلع نحوي الرجل بائع الشاي، القابع داخل غرفة بيع التذاكر. سألني من أنت أيها الغريب؟ هل كنت من رواد هذه الصالة؟ أنا بائع التذاكر. أندهش أنني ساكت ومأخوذ، وصافن!

غرفة بيع التذاكر لم تكن مكتملة الجدران، حيث طالها التهديم بالمعاول، كانت بجدارين ونصف الجدار وشباك صغير هو شباك بيع التذاكر.

“تفضل عمي، أضيفك أستكان جاي .. من أي بلاد أنت؟ أخالك لست من أهل البلاد! هل كنت من أهلها يوماً؟ هل صرت مغترباً؟ وهل بت غريباً فيها؟ هل جئت لكي تتذكر؟ كثيرون يأتون إلى هنا يتذكرون! نعم أنا إرزوقي بائع التذاكر في هذه الصالة؟ لم تعد ثمة سينما. 

وذاك الذي يبيع اللحم المشوي هو الذي كان يشغل ماكنة العرض. لا نستطيع أن نذهب بعيداً عن المكان، فإننا نحبه. نحب صالة السينما هذه التي كثيراً ما سعدنا بظلامها وضوئها على الشاشة. يصعب أن نفارقها. فإتخذنا من هذه الصالة المهدمة مكاناً للعيش. أنا أبيع الشاي، وذاك الذي يبيع اللحم المشوي فوق منقل الفحم هو الذي كان يشغل ماكنة عرض الأفلام!”.

 جلست إلى جانبه على كرسي صغير من الخيزران. قدم لي الشاي بالأستكان العراقية، وصار يضحك ويقول كل رواد السينما يأتون عندي ليلاً يشربون الشاي. وكما ترى نحن هنا ليلاً بدون كهرباء، نشرب الشاي تحت ضوء القمر!.

سينمائي وكاتب عراقي مقيم في هولندا

أقرأ أيضا