الخبر الذي اطلعها عليه الطبيب قبل لحظات داخل عيادته بعد أن عاين الاشعة وقرأ اوراق الفحص ودقققها جيدا جعلها تنفصل تماما عن العالم، ولم تعد تسمع شيئا مما يدور حولها كما لو ان المكان تلقى ضربة نووية اخرست كل الاصوات.. لم تعد الزوجة الشابة التي لم تتجاوز العشرين عاما تملك ما يكفي من القوة لتقف على قدميها خارج العيادة، تهالكت على اخر درجة من السلم الحجري وهي تبكي بصمت، بَدت لي وانا امرُّ مع زوجتي بالقرب منها، كما لو انها زهرة دعكتها يدٌ عابثة، أما طفلها الصغير الذي لم يبلغ عامه الثالث يقف امامها وهو لا يعرف ماذا يدور حوله.. حاول زوجها ان يخفف عنها بأن يمسد على راسها بكفه، التفتُّ ناحية زوجتي وهي تهمس لي “نفس المشهد يتكرر..”.
طيلة العاميين الماضيين تعوّدت على رؤية مثل هذا الموقف وانا ارافق زوجتي رحلة علاجها للشفاء من مرض سرطان الثدي.. كل اسبوع اجد نفسي مصعوقا بالوجع بين ممرات المستشفى وردهاتها ومختبراتها ما أنْ اشاهد اعداد النساء المصابات تتزايد بشكل غير معقول، والاكثر قسوة عندما اشاهد الاطفال الصغار المصابين بهذا المرض، فمن الصعب على الانسان ان يتحمل رؤية براءتهم وهي تنطفئ في وجوههم الجميلة وقد مسحها الشحوب بلونه الاصفر المائل الى السواد واجسادهم النحيلة قد نهشها المرض.
أشعر بالعجز كلما اعود الى البيت بعد ساعات طويلة اقضيها في المستشفى اتصفح المقالات والنصوص الادبية في المواقع الالكترونية للصحف العربية وانا انتظر ان تكمل زوجتي اخذ جرعتها، تاركا خلفي طوابير تنتظر دورها لكي تتمدد على الاسرة المتوفرة والتي لا تتناسب مع اعداد المصابين حتى تنتهي من اخذ جرعة الكيماوي لفترة تصل الى ثلاث ساعات متواصلة، وما ان يتهيأ اي واحد منهم للنهوض ومغادرة السرير سيكون من السهولة على من يراه ان يشعر بما يعانيه المريض من إعياء شديد اصاب جسده بما يجعله غير قادر على السير خطوة واحدة من غير ان يتكىء على كتف من يرافقه حتى يصلا الى بوابة المستشفى ليصعدا الى داخل سيارة الاجرة.
من هنا، وانطلاقا من المسؤولية الاخلاقية ادعو اصحاب الضمائر الحيّة من الاغنياء في هذا البلد (وهم كثيرون بلاشك)، ان يبادروا الى التبرع لاقامة مستشفيات خيرية تقدم العلاج المجاني لمرض السرطان في العراق، ويمكن الاستفادة من تجربة الاخوة المصريين بهذا الموضوع، حيث نجحوا في اقامة عديد المستشفيات التي تقدم العلاج لمرض السرطان في الكثير من المحافظات المصرية عن طريق جمع التبرعات والاعمال الخيرية التي اقدم عليها الاثرياء ونجوم الرياضة والفن والمجتمع هذا اضافة الى المواطنين.
في مدينة اربيل عاصمة اقليم كوردستان يوجد مستشفى (نانا كلي) لمعالجة مرض السرطان، كنا نراجعه طيلة فترة العلاج ومازلنا، هذا المشروع الانساني الكبير اصبح واقعا ملموسا بما يقدمه من خدمات كبيرة لمئات المرض نتيجة مبادرة خيرية نبيلة اقدم عليها قبل عدة اعوام شخص ميسور الحال ينتمي الى عائلة (نانا كلي) حيث تبرع بقصر كبير جدا مع حديقة واسعة مرفقة بالمبنى، وبجهده الذاتي تحوّل الى مستشفى مجهّز بالأسِرَّة والاجهزة الحديثة.أما بخصوص العلاج والادوية فهي تقدم من قبل ادارته باسعار رمزية جدا تكاد ان تكون مجانا، وحسب المعلومات المتوفرة لدي فإن منظمات دولية تكفلت بتقديم كل ما يحتاجه من ادوية واجهزة، اضافة الى الدعم المقدم من حكومة اقليم كوردستان والمواطنين كذلك، وقد لاحظت خلال مراجعتي الاسبوعية لمدة عامين استمرار عمليات التطوير والتوسيع التي يشهدها المبنى، حيث تم اضافة ثلاث قاعات جديدة عن طريق البناء الجاهز، كما فتح مبنى جديد ملحق بمبنى المستشفى القديم، اكبر منه بكثير، توفرت فيه كل المستلزمات التي يحتاجها مرضى السرطان ليكون قادرا على استيعاب اكبر عدد منهم. كما تم تهيأت سبل الراحة والهدوء والنظافة التامة في كافة مرافقه. والأهم من كل ذلك هو حسن التعامل الذي يلقاه المرضى من قبل الاطباء والممرضين وجميع طاقم المستشفى بشكل لم نلمسه في اي مكان آخر.. كم نتمنى ان نجد مثل هذا المشروع في كل مدينة ومحافظة عراقية.
ان اعداد المصابين بهذا المرض تزداد بشكل كبير بينما لاتوجد على الارض مؤسسات صحية تتابع علاجهم وتقدم لهم الدعم من ادوية وعلاجات،فيضطر العديد منهم الى شرائها باثمان مرتفعة لايقوى على تحملها عامة الناس.
بامكان الاثرياء ان يساهموا في بناء مستشفيات تستوعب هذه الاعداد التي تزداد يوميا نتيجة ماتعرض له العراق من عمليات حربية خلال الاعوام الماضية حيث استعملت فيها كافة الاسلحة، المحرمة منها وغير المحرمة، وماكان العراقيون في نظر قوات التحالف الدولي وفي مقدمتهم الاميركان إلاّ حقل تجارب لتلك الاسلحة ولا احد يعرف ما تحمله من اثار مدمرة على البيئة والصحة، وشيئا فشيئا بدأت تظهر نتائجها وخطورتها بشكل ملموس في هذه الاعداد المتزايدة من المصابين بالامراض السرطانية.
فهل سنشهد وقفة مشرفة من رجال الاعمال والتجار والاثرياء تساهم في دعم واقامة مشاريع صحية تعبيرا عن تفاعلهم الانساني مع ابناء بلدهم.