معركة دون كيشوتية مع التلفزيون

كان عليّ أن أعيد اقتباس دفاعي عن عصر التلفزيون الذهبي، وأنا أجد نفسي وبإرادتي هذه المرة، ضمن شهود الشاشة الحاضرين، وبعد أن اتخذت على مدار سنوات مقعدا خلفيا في الجدل التلفزيوني المتصاعد.

الاقتباس مما كتبته وخصوصا في فصل “عصر التلفزيون الذهبي” من كتابي “السوق المريضة” كاد أن يتحول في لحظة ما إلى معركة دون كيشوتية خاسرة وقُدّر لي أن أكون بطلها!

كنت أقول على مدار سنوات في مقالاتي وباندفاع إن الجمهور يشاهد التلفزيون بغريزته، بينما غالبية الفضائيات إما أنها لا تشعر بآلام الناس أو تقدمها بعدسة منحازة، الجمهور صار يصرخ أمام الشاشات كي تكف عن بث التفاهات والخدمات الصحافية السياسية والطائفية مدفوعة الثمن.

وطالما رأيت كيف صار بمقدور الجمهور معرفة قائمة القنوات التي تعرض بيع القيّم والضمير، بل إن أسعار القيم قد انحدرت مع الأزمات الاقتصادية والإفلاس التي تعاني منهما الدول وأصحاب المشاريع التجارية، وأصبح مثل هذا التلفزيون مثالا حيا على تراكم الأفكار التي أصابها الجمود. يعني أن مستقبل صناعة الأفكار في خطر، فمع ضعف إيصال الرؤية بلغة معبرة تضعف الرؤية بذاتها.

كان يمكن أن يتراجع التلفزيون السياسي في زمن المواطن الصحافي كما تراجعت الصحافة المطبوعة، لكن مثل هذا الاحتمال صار غير متداول بقدر كبير، فتأثير الخطاب السياسي لم يخفت في التلفزيون، لذلك مازالت الحكومات تعوّل عليه بشكل أساسي.

فإذا كان الظهور على شاشة التلفزيون بوصفه الأكثر تأثيرا ومشاهدة يقود إلى الإطاحة بالصحافي الذي يرتدي ربطة عنقه احتراما لدفاعه عن جوهر المهنة، فأنه لا يكتفي بأن يجعل من كل هذا الكم من أفكار الدفاع عن التلفزيون المثالي، مقبرة لنفسه، بل يتحول إلى ممثل كوميدي يتحدث عن المُثل في دكان يتاجر بالقيم المهنية.

لكنني في اللحظة المناسبة، اخترت القرار الصحيح، بعد صراع مع نفسي عندما وجدت أن الأفكار التي أريد الدفاع عنها لم يُقدّر لها أن تكون في المكان الصحيح، فانسحبت لحظتها.

كان ينبغي أن أعرض في اللقاء التلفزيوني المفترض كيف يُراد تدمير الذاكرة العراقية بشكل متعمد وبغيض عندما تتم سرقة ألحان عراقية من عقود سابقة وتركيب كلام سطحي عليها لتمجيد لصوص الدولة والميليشيات في العراق، لكن البرنامج نفسه استهل فقراته بعرض واحدة من أكبر السرقات اللحنية الشنيعة. فكيف لي بعدها أن أقول نعم ولا في وقت واحد!

لذلك كسرت وعدا لزملاء أعزاء رحبوا بي بكل ود في قناة فضائية، وأرادوا بمحبة أن أكون ضيفا عليهم، وينبغي أن أعتذر لهم، ولهم الحق الكامل بعدها في النظر باستغراب إلى مثالية إعلامية أزعم بها، ولم تعد قائمة في الفضائيات العراقية.

صحيح، لا توجد أي علامة تجارية يمكنها إلغاء دور التلفزيون أبدا، وفق تريسي فولوز التي تعمل في مجال الاتصالات عن بعد والتكنولوجيا والإعلام، لكننا إذا أصبحنا شركاء فيما كنا على مدار سنوات نقاومه، فأننا بعدها لا نملك الحق الأخلاقي في عرض الأفكار. فكيف بالدفاع عنها؟

فمثلما لا يوجد أحد يوظّف المهندس المعماري الذي ينهار منزله، لا توجد قناة فضائية تستضيف من يضر بطبيعة خطابها، فالذين يظهرون على التلفزيون ويزعجون الناس لا يتحدثون بكلام سطحي ومكرر فقط، بل يطلقون كلاما لا يستطيعون الدفاع عنه أصلا. بيد أنه ينبغي على الصحافي أن يكون كائنا ضارا عندما يتعلق الأمر بالسياسيين ومشاريعهم الفاسدة تحديدا.

لقد استخدم معلمنا في الصحافة سعد البزاز تعبير “التلفزيون من يحكم اليوم” بعد أسبوع من احتلال العراق عام 2003، بينما تتوجب على العراقيين اليوم إعادة إطلاق السؤال التاريخي بطريقة تفاعلية، عما إذا كانوا بحاجة إلى مشاهدة أي شيء غير الدراما التركية وكرة القدم في فضائياتهم؟

أقرأ أيضا