تجويع الشعوب لحسم الخلافات السياسية جريمة أخلاقية بكل المعايير والأعراف،ولن تنفع كل الحجج لتبريرها،ولنتذكر الثلاثة عشر عام من الحصار الدولي الذي فرض على الشعب العراقي في تسعينات القرن الماضي،وكيف تحطمت فيها العائلة العراقية حتى انها اضطرت لخلع الابواب والشبابيك لاجل ان تبيعها وتشتري بثمنها مايسد رمق الاطفال ويستر عريهم .
تذكروا كيف تحول غالبية المعلمين والمدرسين والموظفين والمثقفين الى باعة – بسطيّات – على الأرصفة.
تلك السنوات العجاف ارجو ان لاينساها الشعراء والأدباء والكتاب، لأننا مازلنا نحتفظ في ذاكرتنا بالكثير من الصور المؤلمة منها،خاصة ما يتعلق باسماء بارزة من المبدعين الذين اضطر بعضهم وبسبب الجوع الى ان يبيعوا صابون الحصة التموينية والملابس المستعملة .
ما يؤسف له ان الذين شرعنوا القوانين الانسانية التي تهدف الى حماية الأشخاص المدنيين أملا في التخفيف من الخسائر البشرية و المادية المترتبة على النزاع المسلح كانوا من غير المسلمين إلا انهم طبقوا قاعدة جوهرية يؤمن بها المسلمون دون استثناء تتلخص بجملة (قطع الاعناق ولاقطع الارزاق) وهذه مفارقة ينبغى ان تشعر امامها كافة القوى الاسلامية بالخجل خاصة تلك التي تدعوا الى اتباع سياسة فرض الحصار والتجويع ضد من يختلفون معهم في الرأي بقصد تركيعهم .
ومايدعو الى الغرابة اكثر عندما نجد في مقدمة الذين يدعون الى سياسة تجويع المدنيين لحل النزاعات السياسية من يدّعي محبّة الحسين بن علي حفيد النبي محمد الذي سبق ان تعرض الى عملية حصار جائرة قبل ان يتم قتله ،ولكي لااكون غامضا بما اقصده اشير وبوضوح الى موقف الحكومة العراقية من قضية الاستفتاء الذي اجرته حكومة اقليم كوردستان والمتعلق بحق تقرير المصير واقامة الدولة الكوردية الذي اجري يوم الاثنين 25 ايلول (سبتمبر) لانني لاأقصد ان اخذ القارىء معي الى لعبة ممتعة نحاول فك الغازها بهدف قتل الوقت عبر التلاعب بالالفاظ.
المسألة اعقد مما يمكن ان انساق اليها بمثل هذه الاساليب النرجسية لانها اولا وآخرا تتعلق بمصير ملايين من البشر سواء كانوا من العرب أو الكورد خاصة بعد ان اصبح المناخ العام مابين العراق وكوردستان على درجة عالية من السخونة والتشنج مابين طرفي القضية وربما في لحظة ما قد تخرج ردود الافعال عن السيطرة ويحدث اقتتال ،وهنا لابد من الاشارة الى الدور السلبي الذي لعبه عدد واسع من الساسة العراقيين في زيادة الاحتقان القومي مما اثر بدرجة كبيرة الى ماآلت اليه المواقف وردود الافعال من الجانبين هذا اضافة الى الدور السيء الذي لعبته بعض القوى الاقليمية (منها ماهو معلن ومنها ما هو خفي) وكان دورها بمثابة صب الزيت على النار حتى ان الحكومة العراقية ممثلة بالتحالف الوطني (الشيعي) لم تتردد في ان تغير من مواقفها 180 درجة ازاء تركيا، فبعد ان كانت في نظرها الى ماقبل اعلان الاستفتاء بايام معدودة داعمة لتنظيم داعش الارهابي وقوة محتلة للاراضي العراقية في منطقة (بعشيقة) التي تقع شمال مدينة الموصل وتبعد عنها بمسافة 12 كم نتيجة تواجد عدد من المدربين الاتراك الذين يقومون بمهمات تدريبية لقوات البيشمركة ، فإذا بها تتحول بين ليلة وضحاها مع ايران الى حليف لمواجهة الكورد وثنيهم عن الاستمرار في قرار الاستفتاء حتى لو اقتضى الامر استعمال القوة المشتركة التي تجمع الدول الثلاث (تركيا، ايران، العراق)، وبالفعل جرت لقاءات مكوكية ابتدأ من الاسبوع الاخير الذي سبق الاستفتاء مابين ساسة وعسكريين يمثلونهم بهدف تنسيق العمل المشترك والعمل على فرض حصار بري وجوي ضد اقليم كوردستان يساعدهم في ذلك العامل الجغرافي الذي جعل اقليم كوردستان العراق مطوقا من هذه البلدان وليس لديه من منفذ يمكنه من كسر الحصار فيما لو فرض عليه ،وليس هناك مايشير الى نية اقليم كوردستان الى التراجع عن موضوع الانفصال واقامة الدولة الكوردية خاصة بعد ان اجرى الاستفتاء ونال نسبة تجاوزت70 % لذا من المتوقع ان يمارس سياسة ضبط النفس والتزام منهج المفاوضات المكوكية التي قد تأخذ وقتا طويلا اولا في ما يتعلق بقضية كركوك وثانيا المناطق المتنازع عليها.
في المقابل ليس هناك مايشير ايضا الى ان الدول الثلاث لديها الاستعداد لابداء مرونة في مواقفها أو أن لديها الاستعداد للجلوس والتفاوض مع حكومة الاقليم.
ما يدعو الى السخرية ان التحالف الوطني (الشيعي) الحاكم في العراق يتقدم صفوف المتشددين الداعين الى اتباع اسلوب القوة العسكرية الى جانب فرض حصار اقتصادي مع انه كان ولعقود طويلة الحليف الستراتيجي للقوى السياسية الكوردية، بالشكل الذي همش كثيرا القوى العربية السنية ولم يعد لها دور فاعل في القرار السياسي الداخلي،وكان مايجمع الطرفان الشيعي والكوردي شعورهما المشترك بالمظلومية من قبل الانظمة السياسية التي حكمت العراق.
لو عدنا الى الوراء قليلا لوجدنا ان القوى السياسية العراقية التي كانت قد سمحت لنفسها في تسعينات القرن الماضي ان تمارس على المجتمع الدولي شتى انواع الخديعة والافتراءات حتى تدفعه لفرض الحصار والتجويع على شعب العراق ،طمعا باليوم الذي تصبح فيه ممسكة بعصا السلطة،لن تتردد اليوم في ارتكاب هذه الجريمة مرة اخرى بحق الشعب الكوردي واي مجموعة سكانية اخرى قد تتطلع الى الخروج من هيمنة الحكم الطائفي الذي كرسه الدستور العراقي .
إن توافق موقف انقرة وطهران مع موقف بغداد في ما يتعلق بموضوعة رفض الاستفتاء يأتي من خشية الاتراك والايرانيون في ان يكون لخطوة اقليم كوردستان تداعيات على الشعب الكوردي في بلديهما مما سيرفع بالتالي من سقف الاحلام لديه بالاستقلال الى درجة قد ينتج عنها تصاعد في اشكال المواجهة مع سلطتي البلدين الى الحد الذي يصعب فيه السيطرة عليها ،وهذا ما سيفتح الابواب على مصراعيها امام تدخلات اقليمية ودولية،عندها قد يصبح من الصعب ضمان أن لاتصل الاوضاع الى مرحلة اقرب ماتكون عليه في ليبيا أو اليمن او سوريا او العراق خاصة وان كل العوامل المساعدة على ترجيح مثل هذا السيناريو متوفرة في البلدين منذ سنوات بعيدة ، فالمواجهات المسلحة عادة ماكانت تبرز على سطح الاحداث بين فترة واخرى،وإذا ما اختل توازن الدولة في طهران وانقرة عند ذاك سيكون الظرف مهيأ اكثر من اي وقت آخر للانفجار والانهيار بما سيؤدى الى طرح خيارات الانفصال او التقسيم .
من هنا يمكن النظر الى دوافع التشدد في مواقف الدول الثلاث ازاء اقليم كوردستان وذهابها الى خيار فرض الحصار الاقتصادي كمقدمة لفرض الحل العسكري والذي يبدو على المدى المنظور مستبعدا ، لان القوى الدولية وفي مقدمتها الولايات المتحدة ومن ثم بريطانيا وفرنسا والمانيا لديها حرص شديد على ان تبقى كوردستان العراق بعيدا عن الفوضى وهذا يعود الى طبيعة الثقة التي تشعر بها هذه الدول ازاء الكورد خاصة في مايتعلق بموقفهم الرافض للجماعات الاسلامية المتشددة.