عندما سألت الراحل أبوعبير لإدخاله في شراك لعبتي الصحافية –كنا نفضل هذه التسمية على اسمه المختصر الذي يظهر على الشاشة “ع. ن. ر” بدلا من عمانويل رسام– عن أي شيء يمكن أن يعيده إلى التلفزيون؟
قال: عندما يُرفع الغبن عن أروع أعمالي التي تعرضت للإجحاف وأزيح المسلسل عنوة من ذاكرة العراقيين.
كان المخرج العراقي يتحدث آنذاك عن مسلسل “حكايات الأيام العصيبة” الذي يكاد يكون درسا دراميا باهرا كان ينبغي أن يترك أثره في الصناعة التلفزيونية.
“الأيام العصيبة” سيرة عراقية مبتكرة مستوحاة من زمن الاحتلال العثماني، وربما هي الدراما العربية الأولى التي وظفت هذه الحقبة. أنتج المسلسل عام 1986 من قبل شركة بابل للإنتاج التلفزيوني، لكنه تعرض لظلم في موعد عرضه المبكر، حيث تم ذلك حينما كان الجمهور بعيدا عن الشاشة، أما التفسيرات السياسية لهذا الظلم فهي لا تقل سطحية عن تفكير قسم التنسيق التلفزيوني آنذاك وهو يتعمد قتل المسلسل الرائع عندما لم يختر وقت ذروة المشاهدة في عرضه؛ بدليل أن مخرج المسلسل تم الاحتفاء به من قبل الرئيس العراقي آنذاك، وتم تكريم جميع الفنانين. قاطع بعدها “ع. ن. ر” التلفزيون، وأسس شركته الخاصة حتى رحيله مغتربا.
مهما يكن من أمر، أعاد الفنان الصديق مقداد عبدالرضا، الذي كان بطل “الأيام العصيبة” بشاربه الكث الصارم في دور الضابط العثماني “حازم بيك”، الذاكرة إلى هذا المسلسل عندما وعد ببرنامج جديد عن الكبار في الدراما العراقية.
استثمر المؤلف عادل كاظم رواية “البؤساء” لفيكتور هيجو وعكسها على الواقع العراقي في الزمن العثماني، فلكل بلد بؤساؤه! وصنع المخرج إبراهيم عبدالجليل جوهرته الدرامية، إلا أن قدر الموت باغته بعد أن أكمل إخراج الحلقة السابعة من تلك الحكايات، فلم يكن غير “ع. ن. ر” ليستكمل مهمة إخراج ما تبقى من المسلسل.
من يعُدْ إلى أغنية مقدمة “الأيام العصيبة” –وهي من المقاطع النادرة التي يحتفظ بها لنا السيد العظيم “يوتيوب” بعد أن فُقد المسلسل من بين ما فقد من ذاكرة العراق الحقيقي، كي يسود العراق المزيف– يكتشفْ أي قيمة درامية صنعت آنذاك.
اختار الملحن طالب القره غولي واحدة من أروع قصائد كريم العراقي ليلحنها في مقدمة المسلسل، ولم يجد غير صوته المتسق مع تعبيرية النص، فكان لحنا باهرا بأداء موجع لا يغادر الروح كما أحداث المسلسل التي لا تغادر الذاكرة “يا عابر الصعبات/ طال المسير/ والهم زادك وإنت دربك بحور” إلى أن يصل بصوته الحاد المشبع بالتساؤل “والنفس لو رادت تهز الجبال/ مشعل تظل خالد لكل الدهور”.
لو تسنى لممثلي اليوم من العراقيين العودة إلى الأداء الباهر الذي جسده أبطال هذا المسلسل، لتعلموا الدرس الأثمن في التمثيل، والذي لا يقدمه لهم غير قسطنطين ستانيسلافسكي في “إعداد الممثل”.
في دور “عبدالله التايب” يكشف لنا الفنان خليل شوقي ماذا يعني أن يكون إنسانا صالحا بعد أن غادر حياة اللصوص، ويوسف العاني بدور “مرهون” كان بمثابة تنافس أدائي مع جواد الشكرجي “ابن عنتكة” وكأنهما يقولان هذا تاريخ الأمس يعيد سفح الدماء كتاريخ العراق اليوم! ويقف بينهما طعمة التميمي بدور”شعبان” ولو تسنى لجان فالجان مشاهدة مُعادلهِ العراقي لأدى له التحية الفرنسية.
لم تكتف سعاد عبدالله في دور “كطيعة” بإبهار الجمهور وهي تجسد المرأة اللعوب المسيطرة على زوجها خليل عبدالقادر “صاحب الخان”، بل أبهرت كبار الفنانين المشاركين معها في “حكايات الأيام العصيبة”، ذلك ما قاله لي الفنان يوسف العاني في آخر لقاء جمعنا بتونس. وكمْ برعت صديقتي الرائعة إبتسام مغازجي في دور “باكزة” بلهجة عراقية ولكنةٍ تركية.
“الأيام العصيبة” مفقود ومقداد ذكّرنا به اليوم، فمن يعيد إلى التاريخ الفني العراقي ذاكرته المستباحة؟