البحث عن التقدير رحلة محفوفة بالمخاطر، خصوصاً إذا صعّد الإنسان من وتيرة التعويض لكسب التقدير من الآخرين. يقول سلافوي جيجك – نقلا عن عامر محسن- “حين تجد شخصاً عدائياً وبذيئاً على وسائل التواصل، وتحكمه عقدة الدونية والفوقية، فلا تستمع لمن يخبرك بأنه في الحقيقة شخص بسيط ومتواضع ووديع، مثلاً؛ فالشخص الذليل و البسيط والخجول الذي يشيرون إليه في “الواقع ” قد لا يكون “حقيقتك”، بل هو الشخصية التي أجبرك المجتمع على ارتدائها، أما حين تعبر عن نفسك على وسائل التواصل فهذا اناك “الحقيقة” وتعبيرك الأصدق والحر عن نظرتك عن نفسك”.
ثمّة معاناة مستحكمة وشديدة التعقيد تتحكم في صناعة صورة معينة عن ذواتنا .إنها معارك خاسرة خضناها في الواقع، ولا سبيل لتعويض هذا الخسران المبين سوى الضغط على مخيلتنا للتعويض ونيل المزيد من التقدير الذي خسرناه، وستكون مواقع التواصل العالم الُمتَخَيّل الذي يلبي طموحاتنا التي كانت تعاني انحساراً مؤلماً في أذهاننا.
أذكر أحد الشباب المصريين ذوي الميول العلموية، فقد كان هذا الشاب مستاءً ومتذمراً لان مقالاته العلمية المترجمة جوبهت بردود وتفاعلات لم تكن بالحسبان، من قبيل ” سبحان الله”، ” لا إله إلا الله”، فهذه الردود تفسد جو المقالة العلمية حسب اعتقاد هذا الشاب، إذ كان ينتظر تقديراً من نوع آخر، ولم يدر في باله أن المتدينين سيلاحقونه حتى في مواقع التواصل، فهو لا يحتاج منهم أي تقدير، وإنما يبحث عن تقدير يتمتع بنكهة”معاصرة”!.
هو لم يعترض على “لاعلمية” الردود أو طولها وقصرها، وإنما لم تحرك فيه حس “الرضا” الذي يشعره بالتقدير، فلو كانت عبارات من قبيل “أنت ساحر”، “أنت مميز” ربما ستساهم هذه العبارات بتهدئة حالة التذمر والشكوى لديه. بتعبير آخر، إن حجم الجهد المبذول في ترجمة هذه المقالة وسعة الخيال المسبق عن حجم التقدير الذي سيحظى به هذا الشاب، الذي يعوض حالة اللا تقدير التي يعاني منها في الواقع، لم يكن متوازياً مع ردود الأفعال المخيبة للظن، فهي لا تضعه في خانة الـ “سوبر ستار” التي كان يكافح من أجلها في مواقع التواصل.
هذا النمط المتوفر بكثرة في مواقع التواصل تنطلق معاييرهم وردود أفعالهم عن حجم التفاعل الشكلي الذي يعطينا مؤشراً و” تقديراً” نرتضيه لأنفسنا حتى لو كان عدد المتفاعلين “الصامتين” أكثر من غيرهم. فهذا النمط من التفاعل لا يعنينا ولا يلبّي طموحاتنا لأنه لا يضعنا في محل تقدير واضح وصريح!.
لا بد من أدوات ” احترافية” تجعل المدون – وليس المحتوى!- بمنزلة المشاهير، كـ “الإثارة” مثلاً، حيث ينشط الكثير من المدونين في عالمهم الافتراضي من خلال إثارة الآخرين وسحبهم إلى عالم المدون الغامض، ذلك إن ” الجماهير” تجد صعوبة وغموض في التعبير عن نفسها، إنها عاجزة عن هذا التعبير الملطف الذي يتمتع به المثقف، فالمدون من هذه الناحية ظِلٌ باهت وشاحب لهذا المثقف.
يكتفي المدون بالكيفية التي تؤهله للعزف على الوتر الحساس لتشجيع المتابعين على ” قيء”شخصياتهم الحقيقية، وهو يشارك معهم حفلة ” القيء” هذه لظهور شخصيته الواقعية تحت أشكال تعبيرية تكون، في بعض الأحيان، عنيفة لجذب الآخرين لبضاعته.
إن هذه الوساطة ليست كالوساطة المفترضة للنخب؛ لأنهم ينقلون ” الحقيقة” للجمهور، غير أن وساطة المدون تكتفي بالإثارة والاستجداء غير المباشر للتقدير عبر مساهمة مضطربة ونسبية في إظهار حقائق الآخرين الذين يشابهونه نفس التقليعة.
إنه “حكواتي” من نوع آخر يسعى إلى كسب ” القطيع” حتى وإن كان هذا الأخير مذموماً في مدوناته ” الثورية”، فلا بأس بهذه التورية فهو بانتظار تقدير لطالما كان محروماً منه في الحياة الحقيقية. إن الميزة السحرية التي يوفرها بعض خطباء المنبر الحسيني هي إبكاء الناس. وعلينا الاعتراف إن أبكاء الناس ليس بالمجهود الهيّن!، لذا يقترب المدون والقارئ الحسيني في هذه النقطة بالذات؛ فبعد البكاء يشعر الحاضرون براحة نسبية وبعدها يتبخر كل شيء، فلا مضمون ولا ” بطيخ” يكفي إننا بكينا، وكذلك بعض الحوائط المنيعة للمدونين، إذ يكفي أن تجد عبارة ” الدين أفيون الشعوب” حتى يتعرض المتابعون لوابل خفيف من مطر الإثارة، ثم تمضي الأشياء إلى رتابتها المعهودة.
هذه هي “الحقيقة” إذن، إنها أشكال تعبيرية صادقة تمثل حقائقنا، شخصياتنا التي حٌرمنا منها في الحياة الواقعية، فسواء كنّا عميقين أو مدّعين وتافهين أو حمقى وثرثارين، فنحن لا نظهر سوى شخصياتنا ” الحقيقية”، لكن المعاناة الأشد إيلاماً – والتي لم يكن سلافوي جيجك معنياً بها – هي في لحظة غلق ” الدكان” الافتراضي، سنرجع إلى ما كنّا عليه، إن لم يكن أكثر!، ما يدفعنا لبدء رحلة كفاحية جديدة للبحث عن تقدير افتراضي.