القطب الشمالي المنجمد المدجج بالسلاح الروسي والحكمة الفنلندية يتاثر بارتدادات الحرب الروسية الاوكرانية وتضعه تحت منخفض جوي محمل بالرياح الساخنة.
والاخبار القادمة من حدود البلدين الجارين روسيا-فنلندا تشير الى انها تشهد حالة من الشحن تثير المخاوف من تكرار سيناريو اوكرانيا في فنلندا.
فقد نقلت مواقع اخبارية فديوهات لقاطرات فنلندية تنقل دبابات وناقلات اشخاص عبر مدينة تامبيرا جنوب البلاد باتجاه الشمال ، هذه الفديوات التي نقلتها مواقع اخبارية روسية عن مواقع تواصل اجتماعي فنلندية وسلطت عليها الضوء قالت عنها هلسنكي و بحسب بيان عسكري صدر من القوات المسلحة ((بانها قوات يتم نقلها من اماكن مختلفة من اجل اجراء تدريبات عسكرية، في مثل هذه المهمات يتم احيانا استخدام القطار لنقل المعدات العسكرية)).
وليس بعيدا عن هذا المشهد فان وزير الدفاع البريطاني بن والاس قام مؤخرا بزيارة الى هلسنكي الهدف منها رفع سقف التعاون الامني بين البلدين واعلن من هناك بان بلاده مستعدة لتقديم الدعم لفنلندا من اجل انضمامها الى حلف الناتو او اي مواقف اخرى، وهذا التصريح بحد ذاته لا يطمئن الروس الذين يتهمون لندن بالتورط في حربهم مع الاوكران من خلال ارسال الرجال والسلاح.
وعلى وقع هذا التطورات فقد بادرت موسكو بارسال طائراتها المقاتلة الى اختراق الاجواء الفنلندية وهو الامر الذي يثير غضب الفنلنديين على المستويين الشعبي والرسمي وييقض كوابيسهم التاريخية .
كل هذه الاحداث وقد تليها اخرى بعد تاريخ كتابة هذا المقال تبقى مجرد مقدمات لما بعد يوم 2022/5/12 الذي اعلنته الحكومة الفنلندية موعدا لتحديد موقفها النهائي من الانضمام الى حلف ناتو ، وهي الفكرة التي لم تراود هلسنكي بجدية سابقا الا بعد الحرب الروسية الاوكرانية حيث استشعر الفنلنديون الخطر الروسي عليهم بعد ان كان مجرد جار تاريخي مضى ما بعد الحرب العالمية الثانية نحو تطوير العلاقات وتحييد الخلافات والحرب الروسية على اوكرانيا لم تقتصر على استشعار الفنلنديين للخطر الروسي على بلادهم وانما دفعتهم الى تغيير جذري في ركائز فلسفتهم الامنية الاربعة التي كانت قائمة على تحسين الموقف العسكري بخصوص الدفاع عن النفس و الشراكة مع المعسكر الغربي و العمل مع الاسرة الدولية من خلال الامم المتحدة والمنظمات الدولية والمرتكز الرابع هو علاقات جيدة مع روسيا، والاطار العام لهذه المرتكزات هو الحياد وهو الدور الذي لعبته فنلندا طيلة العقود الماضية وهذا جعلها ان تكون محطة لتبريد الازمات الدولية وفيها وقعت اتفاقية الامن والتعاون الاوربية عام 1975 كما استضافت هلسنكي معظم لقاءات روؤساء الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي (وروسيا فيما بعد) واخرها كان عام 2018 عندما التقى الرئيس الامريكي دونالد ترامب ونظيره فلاديمير بوتين.
اليوم يدرس الفنلنديون (الرئيس ورئيسة الوزراء وزعماء البرلمان) وضع مرتكزات جديدة لفلسفتهم الامنية تتماشى مع تطورات الموقف الروسي واحد هذه المرتكزات الجديدة هو الانضمام الى حلف الناتو في اعلان مباشر وصريح من هلسنكي لمغادرة منطقة الحياد والانضمام الى المعسكر الغربي بشرطه وشروطه، والذهاب بهذه الخطوة الى النهاية سييقض الحدود الفنلندية الروسية البالغة 1300 كم من سباتها ويزيل الضباب عن عاصمتي الثلج (هلسنكي-موسكو) ويضعهم في مرمى نيران السياسة التنافسية وتبادل رسائل الاستعراضات العسكرية وتعبئة الغابات المشتركة بالمراكز الاستخبارية.
يوم 5/12 المقبل الموعد النهائي الذي حدده الرئيس الفنلندي ساولي نينيستو للاعلان النهائي عن موقف بلاده تجاه الانضمام الى الناتو ، الا ان اشارات وصلت من قوى اوروبية وشخصيات فنلندية مؤثرة الى ان فنلندا قد حسمت امرها وستذهب الى الناتو خصوصا وان القرار مدعوم شعبيا فقد بينت الاستطلاعات تاييد %62 من الفنلنديين انضمام بلادهم الى الناتو في استطلاع اجري هذا العام بفارق %30 من نسبة استطلاع قد اجري قبل عامين تقريبا كما ان 120 عضوا في البرلمان الفنلندي البالغ عدد اعضاءه 200 نائب يدعمون انضمام بلادهم للحلف الاطلسي.
المتغير الذي تشهده فنلندا في الوقت الحاضر مقارنة بالعقود السابقة والتي اسميها عقود الحكمة انها دولة تدار حاليا على يد طبقة سياسية شابة معبئة بالمثالية السياسية التي تربوا عليها وجعلتهم لا يتقربون الا من المجتمعات المشابهة لمتبنياتهم الضامنة لحقوق الانسان وحرية التعبير والمساواة ونبذ العنصرية وهذا ما لا يتوفر بالنظام الروسي الذي يجمعه ماضي مرير مع الجارة فنلندا التي استقلت عنه عام 1918 ثم عاد في الحرب العالمية الثانية ليهزمها في المعارك الدائرة بينهما ويفرض عليها القائد الشيوعي ستالين في ذلك الوقت شروط المنتصر القاسية بما فيها استقطاع مساحات فنلندية كبيرة مليئة بالموارد والثروات وضمها الى الاراضي الروسية، في موقف لا يغادر الذاكرة الفنلندية مهما تغيرت الاجيال، لذلك يرى هؤلاء الشباب بقيادة رئيسة الوزراء الاصغر سنا في العالم سانا مارين بان حرب الروس على اوكرانيا فرصة لحسم الموقف من روسيا وانهاء حقبة اللا عداء واللا صداقة، وهذه المرحلة كان قد بدئها ساسة فنلندا المخضرمين منذ زمن بعيد انه زمن الحكمة الفنلندية التي حافظت على انجماد القطب الشمالي وابقت عواصمه عواصم ثلج بعيدة عن النار حيث كان الفنلنديون يعتمدون سياسة الابواب المفتوحة في علاقاتهم مع حلفي الناتو و وارشو واوجدوا توازنا في علاقتهم مع الطرفين ابعدت بلادهم عن شرور الحرب الباردة وتفرغوا للتنمية الاقتصادية والاجتماعية لتكون دولتهم رائدة العالم في الرفاه الاجتماعي هذا اليوم وتتصدر تصنيفات العالم بايجابياتها.
سلالة سياسيي الحكمة في فنلندا لم تنقطع في العصر الحالي حيث يعد الرئيس المحبوب شعبيا والمحترم خارجيا نينيستو امتدادا لذلك الجيل وهو من يمتلك حق صلاحيات ادارة الملفات الخارجية كما ان وزير خارجيته بيكا هافيستو وهو الاخر محسوب على جيل الحكمة والبرغماتية فقد عاد للسياسة عام 2007 بعد قطيعة استمرت 12 عاما.
ولهذا سعى الاثنان مع اصدقائهم في الاحزاب الحاكمة واحزاب المعارضة الى طبخ ملف الانضمام الى حلف الناتو بحكمة وروية اعتمدت عدة مبادئ منها القبول الشعبي والاتفاق السياسي على مستوى الداخل وعلى مستوى الخارج ان تنضم فنلندا وجارتها السويد في ان واحد لحلف الناتو لتشتيت الضغط الروسي وان يسبق الانضمام منح ضمانات امنية واضحة لفنلندا من اعضاء الناتو بحجم الخطوة المقبلة عليها.
ومهما كانت طريقة التحاق الفنلنديين بالناتو فان الفكرة بحد ذاتها لن تبقي الروس صامتين واولى عواقبها المتوقعة قطع امدادات الغاز الروسي عن فنلندا الامر سيسبب مشاكل جمة للفنلنديين في مقدمتها ارتفاع نسبة البطالة وفقدان الوظائف وكذلك اقبال موسكو على الغاء اتفاقية قناة سايما التجارية المشتركة ما بين البلدين والموقعة مطلع ستينيات القرن الماضي ولهذه الاتفاقية ومزية سياسية حيث تشير الى حسن نوايا البلدين تجاه بعضهما عندما وقعاها في ذلك الوقت وفي حال الغيت فان القناة البحرية ستكون منصة لانتشار الاسلحة النووية على الجانب الروسي لان فنلندا حينها ستكون خطرا على الامن القومي لروسيا.
كمتابع لا اعتقد ان الفنلنديين سيصلون الى نقطة اللاعودة مع الروس والالتحاق بالناتو الا اذا ايقن الفنلنديون بان زمن الحياد قد ولى بعد حرب روسيا على اوكرانيا وملزمين بان يختاروا مكان يكونون فيه يحول دون تكبدهم لخسائر كبيرة والادفئ سيكون المعسكر الغربي القريب منهم ايدلوجيا والمرتبط معهم باحلاف عديدة لعل في مقدمتها الاتحاد الاوربي الذي تتمتع فنلندا بعضويته الكاملة حيث يشكل اغلب اعضاء اعضاء في حلف الناتو .
والا فان حكمة السياسة الفنلندية لا تسمح بالمغامرات السياسية على حساب المكاسب المتحققة في هذا البلد ذي المناخ القاسي وهم (الفنلنديون) يعلمون جيدا بان موسكو لن تقبل بان تكون هلسنكي شوكة توضع في خاصرة من جانب بحر البلطيق وبذات قدر يملكون من الكرامة لدرجة لا تسمح لهم بان يتحولوا الى ورقة بيد الناتو ليقايضوا بها اوكرانيا كما يحصل مع بعض الدول في الشرق الاوسط عندما حولت مستقبل شعوبها ورقة بيد قوى اجنبية تقامر بها على طاولات المفاوضات الدولية لحل مشاكلها المتكلسة.