صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

نبوءة محمد خضير.. عراق مُتخيل في جوف الأرض*

في قصة قصيرة بعنوان (غرافيتي 2042) يتخيل الروائي والقاص العراقي، محمد خضير الحياة في مدينة جرار تغير أحوالها حيث “سكن أهلها تحت الأرض، بعد ان ارتفعت درجات الحرارة وفاق أوراها طاقة الاحتمال البشري، وشحت المياه السطحية”. يرسم الكاتب صورة حرّ قارض أجبر السكان على ترك مساكنهم السطحية والإقامة تحت الأرض، وذلك من خلال سرد قصصي يلوح الكاتب فيه الى استحالة الحياة في خارج المدينة الجوفية. في القصة، يوزع ساعي بريد رسائل بقيت في صندوق البريد لسنوات طويلة، ويصف لنا الحياة تحت الأرض بجمل تشير في الغالب الى سطح مهجور يتميز بقهر الشمس الهابط والنسمات اللافحة. حتى سجن المدنية كما نكتشف من خلاله، قد أُخلي من نزلاءه وأُطلق صراحهم ليتختبئوا تحت الأرض. خلاصة القول لم تبق سوى المقبرة على السطح. يخرج ساعي البريد ليخبر صديق رسام له عن اجراء مسابقة للرسوم على الجدران تنظمها دائرة البريد التي يعمل فيها تحت لهب الشمس.

من خلال وصف القاص للحظات التي تسبق خروج ساعي البريد من المدينة الجوفية الى السطح، نشعر بحرارة تخترق كل شيء، مما يدفع بساعي البريد الى اعتمار قبعةً مبطّنة، وتعليق قِربة ماء مدثّرة بالخيش في مقود دراجته، مع مؤونة غذاء صغيرة، وحزمة من الصحف القديمة. “وأحجبُ عينيّ بنظارة واسعة العدسات شديدة الإعتام، وسرعان ما استسلمتُ لضهد الشمس الهابط بحَربتِهِ المشعّة على رأسي. الشوارع خالية، النسمات اللافحة تكنس أوراقاً من سجلات الزمان السطحّي المهجور…”.

وفي الرسم الجداري الذي ينفذه الفنان يبدو الهلع والظمأ على وجوه كائنات بشرية يهرعون على أرض متشققة. نفهم من خلال هذه الصورة بأن موضوع الجدارية أيضاً يتعلق بحرّ قاس اضطر السكان على أثره بناء مدينة جوفية هرباً من لهيب الشمس الحارق. بعد حوار قصير يدور بينهما يترك موظف البريد لصديقه الفنان على سقالته تحت الشمس اللاهبة، متخيلاً بأنه واحد من الذين ستصهَرُهم الشمس ما ان تستوي في كبد السماء.
لا يمكن وضع هذه القصة في سياق قصص الخيال العلمي كما ذهب دارسوا الأدب والنقاد، انها قصة مستقبلية بالامتياز، تنبأ فيها الكاتب بما يحصل في ظل تغير المناخ الحاصل جراء حرق الوقود الاحفوري والعمليات الصناعية والتطور العمراني والحضاري والزراعة المكثفة على حساب النظم البيئية المحدودة على الأرض.

نحن نعيش اليوم واقع مناخي-بيئي تنبأ به المبدع الكبير محمد خضر قبل سنوات من الآن. واقع تم فيه رفع الراية البنفسجية في موطن الكاتب: البصرة، لأن الحرارة اجتازت نصف الغليان ووصلت الى 52 درجة مئوية، أي ان لهيب الشمس اخترق مسامات الأحياء، بما في ذلك البشر. واقع أُخفيت عنه غابات النخيل قسراً، أُزيلات الغابات فيه برغبة جامحة من “السلاطين الجدد”. تالياً، اختفت عنّا حركة انسيابية لذرى الأشجار تُبعد موجات الرياح الساخنة تساهم في تبريد الجو. لقد اصبحت أرض السواد مكشوفة الظهر لقهر الشمس الهابط كما يذهب اليه القاص البصري.

* باستثناء المقطع الأخير من هذا المقال، المقاطع الأخرى جزء من حوار أجريته مع مبدعنا الكبير محمد خضير في البصرة عام 2019 ونشر في كتابي (حُرّاس المياه.. الجفاف وتغير المناخ في العراق).

أقرأ أيضا