أي مهتم بمجال معين يسعى لدراسة تاريخه، لأن فهم الماضي عنصر مهم وفعال لفهم المستقبل واستيعاب الحاضر، وتكوين القدرة في التعامل معه، وهذا الامر ينطبق على الحركة النسوية ايضا باعتبارها نوعا من الحركات الاجتماعية.
عند دراسة تاريخ الحركة النسوية في العراق لا يأتي سوى سؤال واحد في مخيلة الباحث وهو هل يعتبر ما مضى وعلى ايدي العديد من المهتمات بالشأن النسوي آنذاك “حركة نسوية” من الاساس؟
هنا يتطلب الامر بحثا عن معيار لتحديد ما اذا كان ذلك يمثل سلوكا اجتماعيا أم لا، واهم معيار من معايير الحركة الاجتماعية أن تكون بفعل مجموعة من الناس يحملون اهدافا عامة يسعون لتحقيقها عبر طرق مختلفة، ما يولد تغييرا ملحوظا لدى الرأي العام وتهييجه نحو الفكرة المحمولة تلك، وبالتالي تشكل ضغطا ذا أبعاد مختلفة من خلاله يتحقق الهدف، أي ان اهم عنصر في هذا المعيار هو وجود تغيير في الفكر العام يمكن الاشارة اليه بالبنان او الشعور به على اقل تقدير، وفي معرض كلامنا عن الحركة نسوية فهي تتطلب وجود نفس الافكار عن هدف ما عند جمع كبير من النساء يحاولن تحقيقه بطرق متعددة من اهمها التظاهر والمسيرات، وأن لا تكون تلك النسوة محصورة بطبقة او لون او عرق معين، لأن مصطلح حركة نسوية بالأساس يعني المطالبة بالمساواة التامة بين الرجل والمرأة بغض النظر عن كل الفوارق بالإضافة الى التعريف الابسط وهو حق المرأة بالاختيار، وعدم تبعيتها للرجل.
هنا يظهر سؤال.. وهو هل هذا المعيار متحقق في العراق أم لا؟ والجواب هو لا وبكل اسف.
ما حصل في العراق وحتى قبل تأسيس اول صحيفة تعنى بالشأن النسوي وهي صحيفة ليلى عام 1924 التي اسستها بولينا حسون الصحفية العراقية الرائدة ذات الديانة المسيحية، وحتى عام 1963 لا يمكن ان يعتبر سوى مناداة بسيطة وخجولة بحق المرأة في التعليم والسفور في اغلب الاحيان وهذا ما يتم ملاحظته من المقالات التي كتبت من قبل نساء الطبقة الارستقراطية في الغالب ممن حصلن على التعليم قبل غيرهن من النساء وهن بنات او اخوات او زوجات ضباط في الجيش العثماني او في الحكومة بعد تأسيس الملكية في العراق، وتعلم غالبيتهن عبر جهود الملك فيصل وزوجته حزيمة وزوجة ابنه الملكة عالية، وليس عبر المطالبة النسوية التي كانت خجولة جدا وانحصرت باجتماع للمس بيل مع نسوة ارستقراطية طالبن منها ومن التاج البريطاني فتح مدارس للبنات, تعلمت بناتهن فيها لاحقا وبنات الطبقة المقربة من الحكم وتشكلت العديد من المنظمات النسوية او العامة ذات الفرع النسوي، لكن ليست بجهود ذاتية من قبل نساء يؤمنّ بالحركة النسوية، بل تشكلت من قبل الملك فيصل وزوجته الذين كانوا مؤمنين بأهمية تعليم النساء.
وبعد ما يقارب 20 عام ظهرت اولى المنظمات التي اسستها نساء متمثلة بعفيفة مخلص، ولكن ليس لهدف نسوي بحت وانما لمحاربة الفاشية والنازية، وهكذا كان اسمها ايضا ثم تحولت الى رابطة النساء العراقيات بإيعاز من رئيس الحزب الشيوعي آنذاك (فهد) وترأستها نزيهة الدليمي وهي العنصر البارز في تلك المنظمة، وبسبب ازدياد رقعة عدد المهتمات بالشأن النسوي انبثق اتحاد النساء العراقي على غرار اتحاد النساء في مصر واخذ هدى شعراوي نموذجا. ان اهم سبب يمكن التركيز عليه في اعتبار ما حصل في الماضي يشكل حركة أم لا هو عدم وجود اشتراك حقيقي بين النسويات وبين النساء العاديات بالمطلق فكانت الحركة بأكملها محصورة بدائرة ضيقة واحدة تشمل النسويات اللاتي بدأن بالحراك منذ عام 1924 الى عام 1963 ولم يحصل سوى تغيير بسيط بين صفوفهن ولم تكن هناك مطالبات صريحة وواضحة بأي حق من حقوق النساء، غير التعليم، فلم تتطرق النسويات وخاصة من عملن في الصحف الى الحق في التعبير، بل ذاتهن كن يكتبن باسماء مستعارة، ولم تحدث مطالبة بحق الترشيح لمجلس الامة (البرلمان)، ولا حق الانتخاب، ولم تكن هناك مطالبة للحق بالعمل او المساواة التامة مع الرجل، ولم تكن هناك مسيرات او تظاهرات او منشورات تطالب بحقوق النساء تحديدا، بل كل المظاهرات التي حشد لها النسويات كانت للشأن الوطني والسياسي وليس للشأن النسوي الخاص، ولا توجد مفكرات نسويات او كتب تم تأليفها للشأن النسوي في تلك الفترة البتة، بل حتى الشاعرات لم يركزن في دواوينهن على قضايا نسوية، وهذا الامر ظل على تلك الوتيرة الى عام 1963 حيث سيطر الاتحاد النسائي التابع للسلطة الدكتاتورية وفكره على الشأن النسوي الى أن سقط النظام وتم حل الاتحاد النسائي.
من كل هذا نخلص الى أن لا حركة نسوية في العراق أصلا حتى نسعى الى تطويرها والعمل على إنضاجها اكثر، على غرار الحركة النسوية المصرية التي ظهرت للعيان بشكل واضح عبر مسيرات ومنشورات ومؤتمرات عديدة واشراك عامة النساء في الحركة ومحاولة الوصول حتى لنساء الريف لتوعيتهن، وظهرت مؤلفات نسوية عديدة لعدة كاتبات مثل هدى شعراوي وليلى احمد ونبوية موسى وملك ناصيف، وفيما بعد، نوال السعداوي وغيرهن من النسويات اللاتي احدثن تغييرا ملموسا، وكان لكلماتهن صدى في الأوساط الاجتماعية والنسوية، لذلك يجب علينا البدء بانشاء حركة نسوية حتى يتم تطويرها مستقبلا على اسس صحيحة .