صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

نريد نوابا.. لا «دفّانة»!

برزت في الحياة السياسية العراقية ظاهرة غريبة تشبه إلى حد بعيد مهنة الدفّان أو “حفّار القبور”، فكما ينتظر الدفّان مجيء الجنائز على باب المقبرة، يتمتم بدعائه المعروف، اللهم ارزقنا على ما نبذت.. صار بعض النواب وذيولهم ينتظرون المصائب والكوارث كي يسرجوا ظهورها، ويظهروا أمام الكاميرات كأنهم “أولياء دم”، وهم بالحقيقة مجرد تجّار أزمات، يترزقون من دموع الثكالى وأنين الجرحى.

في العراق، لا يكاد يمرّ أسبوع دون فاجعة، حتى صارت المصائب سُلّماً يصعد عليه بعض النواب لالتقاط صورة، أو تسجيل مقطع تعزية ركيك، أو الظهور بابتسامة باهتة لا تغني المتضررين ولا تشبع من جوع، ولا ترويهم من عطش. نواب لا يعرفهم الناس إلا في أيام النكبات. لا صوت لهم في البرلمان، ولا موقف في اللجان، لكنهم أول الحاضرين عند وقوع الكارثة، وأول المغادرين عند انتهاء التصوير.

إن هؤلاء “الدفّانة السياسيون” لا يمثلون الشعب، بل يمثلون ثقافة الانتهازية التي نخرت الدولة العراقية، ثقافة تركّز على الشكل لا الجوهر، على اللقطة لا الموقف، على التسويق لا التشريع. فبدلاً من أن يعمل النائب على منع الكارثة من خلال الرقابة والمساءلة والتشريع، نراه ينتظر الكارثة ليظهر بمظهر المتعاطف، متناسياً أن مهمته هي الوقاية لا النحيب، الفعل لا الانفعال.

في مجلس النواب، نحتاج من يرفع صوته لا يديه، من يسائل لا يعزّي، من يتقدّم بمشاريع قوانين تحمي المواطن وتحصّنه، لا من يوزع ماءً بارداً وكلمات مكررة بعد كل مصيبة. العراق لا يحتاج دفّانة سياسية، بل يحتاج رجال دولة، أصحاب ضمير، يشعرون أن فشل الحكومة هو فشلهم، وأن دم المواطن في أعناقهم.

العراق اليوم يُدار بمنطق “خلّها تخرب ونحضر نعزّي”، وهي سياسة الخراب الممنهج. فلو كانت لدينا رقابة حقيقية لما احترق الأطفال في المستشفيات، ولو كان هناك تشريع جاد لما انهارت المدارس فوق رؤوس طلابها،

إن مشهد النائب الذي يقف على أنقاض البيوت المنهارة، أو عند أبواب المستشفيات، وهو يقرأ تعزية مكتوبة سلفاً، لم يعد مقبولاً. الناس سئمت هذا النوع من التمثيل السياسي. المواطن العراقي لم يعد يبحث عن من يواسيه، بل عن من يمنع المصيبة من أصلها. يريد نائباً يحاسب، يصرخ، يعارض، يقاتل من أجل الشعب، لا من يرفع يافطة “البقاء لله” ويغادر بهدوء.

باختصار، العراق لا يحتاج إلى حفّاري قبور سياسيين، بل إلى بناة دولة. إلى نواب يفهمون أن العمل النيابي ليس وظيفة شرفية ولا بروتوكول اجتماعي، بل مسؤولية وطنية من الطراز الثقيل. المسؤولية لا تبدأ من المقبرة، بل من قاعة البرلمان.

فمن لم يكن قادراً على الوقوف بوجه الفساد، فليبقَ في بيته. ومن لم يستطع أن يكون صوت الشعب في أوقات الهدوء، فلا نريده أن يكون “وجه المصيبة” عند كل كارثة.

نحتاج نواباً عن الشعب.. لا دفّانة.

أقرأ أيضا