في خطوةٍ تحمل دلالات سياسية عميقة وتداعيات انتخابية غير مضمونة، قرر الإطار التنسيقي خوض الانتخابات المقبلة بقوائم منفردة، على أن يُعاد ترتيب التحالفات بعد ظهور النتائج. هذا القرار، الذي قد يبدو في ظاهره استعراضاً للثقة والقوة داخل مكونات الإطار، إلا أنه يعكس حجم الخلاف بين قوى الإطار، حتى وإن كان الجمهور واحداً في الغالب، ويحمل في جوهره احتمالات كبيرة لإعادة تشكيل الخريطة الانتخابية، وقد يمثل -من حيث لا يُقصد- فرصة ثمينة للقوى السياسية الجديدة والوجوه المستقلة الصاعدة.
القراءة الأولية لهذا القرار تشير إلى أنه سينتج عنه تشتيت كبير في أصوات الناخبين الموالين لخط الإطار، بسبب تقاطع المصالح وتعدد القوائم التي تتنافس – إلى حد كبير – على نفس القاعدة الجماهيرية. وهذا ما قد يؤدي إلى ضياع نسبة ليست قليلة من الأصوات تحت عتبة القاسم الانتخابي، وهو ما جربته قوى سياسية عديدة في انتخابات 2021، حين خاضت الانتخابات متفرقة ففقدت فرص التمثيل بسبب تبعثر الأصوات، وهو ما قد يتكرر الآن.
في المقابل، يفتح هذا الواقع الجديد نافذة أمام الأحزاب والقوى السياسية غير التقليدية والمستقلين لاقتناص فرص التمثيل في المناطق التي ستشهد منافسة مشتتة بين أطراف الإطار. فحين تنقسم الجبهة الواحدة إلى أكثر من قائمة، فإن توازنات القوى تتغير، وتضعف سيطرة الكيانات التقليدية على مجاميع محددة من الأصوات. وهنا تبرز أهمية التنظيم الميداني، والتواصل الجماهيري، والاعتماد على الخطاب المحلي الفعّال في المناطق التي تبحث عن بدائل للوجوه القديمة.
إلى جانب هذه المعطيات، لا يمكن إغفال أثر غياب التيار الصدري عن المشهد الانتخابي، وهو عامل جوهري يُحدث فراغاً سياسياً كبيراً، لا سيما في الساحة الشيعية التي اعتادت على وجود هذا التيار كلاعب مركزي وفاعل. غياب التيار يترك أكثر من 40 مقعداً برلمانياً دون منافس تقليدي مباشر، مما يجعلها “مقاعد حرة” متاحة للتنافس بين قوى الإطار التنسيقي من جهة، وقوى جديدة وشخصيات مستقلة من جهة أخرى. ورغم أن هذا الفراغ قد يُغري المستقلين والطامحين الجدد، إلا أن الحقيقة تبقى أن الكاسب الأكبر في هذا السيناريو هو الإطار التنسيقي نفسه، الذي يمتلك بنية تنظيمية وعقائدية ووجوداً في الساحة الشيعية أكثر من الأطراف الأخرى بغياب التيار، وقدرة على تعبئة جمهوره، وخبرة تراكمية في إدارة الحملات الانتخابية.
والأهم من ذلك، أن الانتخابات القادمة ستكون أشبه بتنافس داخلي بين قوى الإطار نفسها، في ظل غياب منافسين أقوياء في الساحة الشيعية. هذا الواقع يجعل المعركة الانتخابية ذات طابع أحادي القطب، حيث يتنافس أبناء البيت السياسي الواحد على مقاعد متقاربة من حيث الجمهور والخطاب، وهو ما قد يعمّق الانقسامات ويزيد من تعقيد مرحلة ما بعد الانتخابات.
لكن، لا بد من الإشارة إلى أن هذا “التشتت المنظم” الذي تبناه الإطار قد يكون جزءاً من مناورة سياسية مدروسة، تهدف إلى احتواء الرغبات التنافسية داخل مكوناته، والسماح لكل طرف بإظهار ثقله الحقيقي قبل العودة إلى طاولة التحالف بعد الانتخابات. ومع ذلك، تبقى تداعيات القرار مفتوحة على سيناريوهات غير محسوبة، خصوصاً إذا ما اقترنت بمشاركة شعبية متوسطة، وعدم قدرة بعض القوائم على تجاوز العتبة الانتخابية.
بالمحصلة، فإن قرار الإطار بخوض الانتخابات منفرداً، رغم ما فيه من مجازفة، يشكل فرصة تاريخية لكل من يسعى إلى تجديد الطبقة السياسية من خلال أدوات انتخابية واقعية. وهو اختبار مزدوج: للإطار في قدرته على الحفاظ على تماسكه لاحقاً، وللأحزاب غير التقليدية في قدرتها على استغلال اللحظة وتحويلها إلى مكسب سياسي حقيقي.